شباب سائرون صوب يسوع برفقة تريزيا الصغيرة «أضواء

قبل أن نبدأ المسيرة

القديّسون!...

لا تُفرط في رفعهم على سلّم الكمال، فتجعل مستحيلاً الدنوّ منهم وبلوغ مستواهم. إن الكنيسة طوّبت قدّيسين منذ قيامها، وعبر جميع العصور، فإنّها لم تفعل ذلك لتعيِّن أشخاصًا مميّزين، أشخاصً مصيرهم خارق العادة الى حدّ أنّ هذا المصير لا يعود يعنينا بشيء؛ وإنّما، خلافًا لذلك، اختارت هؤلاء الأشخاص لما يتحلّون به من صفات يمكن الاقتداء والتمرّس بها، لتدلّ على أن الانجيل يُمكن حقيقة، أن يُعاش ملءَ حياةٍ، أيًّا تكن الثقافات وأوضاع الحياة. واختصارًا، أقول لك إنّك قادر بنعمة الله على أن تصبح قدّيسًا، وأن تقتبل في ذاتك الحياة الإلهية!

منذ الآن ستسلك الدرّب مع القدّيسة تريز الطفل يسوع، يا لَحظِّنا بهذه الرّفقة! حياتها خالية من الخوارق، فلا ارتفاعٌ سحريٌّ عن الأرض، و لا انخطاف روحيٌّ، و لا انجذاب نفسيّ، أللّهمّ إلاّ نوعيةٌ وحبّ جنونيّ ( وهو حبّ خارق العادة هذه المرّة)، يتجلّى في صغرى أشياء الحياة اليوميّة.

ألم تقل تريز إن بإمكان المرء أن يخلّص نفسًا إن هو التقط بحبّ دبّوسًا عن الأرض؟

هذه القدّيسة في متناولك، وإليها يسهل الوصول بشكل مدهش. لذلك شاءت في نهاية حياتها أن تُدعى "تريز الصغيرة".

فهلمَّ بنا! ولنتّخذها رفيقة لنا. ولندخل مدرستها. ولنسألها أن تصبح معلّمتنا في الحياة.

يا قدّيسة تريز، صلّي لأجلنا.

يا قدّيسة تريز، علّمينا.

   المرحلة الأولى

إلهُ قلبه مفعمٌ حبًّا

١ـ لنتأمل

١ـ ١ حياة كلّ قدّيس تتميّز بحدس أساسيّ، بفكرة ذات فاعليّة. وهذا الحدس هو، لدى تريز، ثقةٌ لا تتزعزع ب "رحمة الله"، ويقينها أنّها أبدًا مغمورة بالحبّ أينما حلّت. ومفتاح قراءتنا هذا يُلقي الضّوءَ على كامل حياتها ويكشفُ لنا عن جوهر رسالتها الرّوحية.

لقد اكتشفت تريز، في قلب وجودها، وبفضل ما صادفت من أحداث والتقت من أشخاص، وجه الله الحقيقي: الله هو الحبّ!

إنتبه جيّدًا لكلمة "حبّ". وهي كلمة ساء استعمالها كثيرًا في هذه الأيام.

لكي تتجنّب تشويهها اعتبر، ما إن تتفوّه بها، أنّها تُضْمرُ معنى الذبيحة والصّليب. وفي الواقع، من يحبّ يهب كلّ شيء، حتى دمَه وحياته.

لقد وقعت تريز على "حبّ الله": حبّ شخصيّ، حبّ صديق يقف أبدًا الى جانبك، فلا تغفل له عنكَ عين، ويتابع كلّ سكناتك  وحركاتك بنظرات ليست نظرات رقيب يرصد أقلّ هفوة، وإنما نظرات عاشق.

١ـ٢ فإن سبق لك أن فُتِنْتَ بشخص، بتَّ تدركُ، عن خبرة، كم يروق النظر إليه. وحبّ الله هو من هذا القبيل: قلب يسوع الألهي يخفق لأجلك، بنوع خاص، كما لو كنت وحدك في الوجود، وخليقته الوحيدة، لأنّه يحبّك. لا تسل كيف يُحبّك وإلى أيّ مدى؟ لأنه يحبّك فوق كلّ ما يسعك أن تتصوّر، وفوق كل ما أمكنك ويمكنك أن تشعر به تجاهَ أيّ حبيب. فحبّه لا نهاية له ولا حدود. ويسوع يحبّك بحنان ورهافة تفوقان كلّ وصفٍ وتقدير، وهو يحبّك مجّانًا، ولست بحاجةٍ الى القيام بأي شيء ليحبّك. وهذا الحب غدا ملكَ يديك مهما بدر منك، ذلك لأنّنا لسنا نحن من ألهب حبّ يسوع بفضائلنا أو مآتينا. هو من أحبّنا أولاًّ، وسيبادر دومًا الى حبّنا. وبعد، يا له من سلام ننعم به، إذ ندرك أن لا شيءَ، لا شيء البتّة، يمكنه أن ينتزع منّا حبّه اللامتناهي! هذي صخرتك، أيّها الشاب، نقطة ارتكازك الوحيدة: حبّ يسوع! هذا الحبّ حتى ذنوبك تعجز عن جعل يسوع يُقلعُ عن غمرك به. وخلافًا لما تظنّ، كلّما ابتعدت عنه كلّما تاق الى العثورعليك.

وهذه هي لِقيَةُ تريز الكبرى: الله هو قلب مفعم رحمةً. فما إن يرى بائسًا حتى يحنو عليه لينّجيه من بؤسه. وهذه الرحمة ليست وقفاً لكبار الخطأة مثل القديسة مريم المجدلية أو القديس أوغسطينوس... فهي تفعل بقوة مماثلة في قلب أطهر المخلوقات من مثل أم الله. إنّما الفارق بين الفعلين أنها في الأوّلين شفاء، بينما في الآخرين، من أمثال أمّ الله، تقي من الجراح.

١ـ٣ وقدّيستنا كانت تعرف ذلك. لذلك لم تكن تتردّد،  رغم طهارتها، في مجالسة كبار الخطأة تحت إشعاع رحمة الربّ وتأثيرها. ألم تقل إنّها لو عجزت عن دخول الكرمل، لكانت اختارت التطوّع للخدمة في مأوى مومسات تائبات، لتتمكّن من الجلوس الى مائدة الخطأة، على حدّ ما كانت تردّد مرارًا؟

هكذا هو يسوع: متعطّش دومًا إلى النفوس. وموته على الصليب، موتٌ من شدّة الحبّ. وهذه هي رسالة الله إلى البشر، وقل كلمته الأخيرة النّهائية: يموت الحبّ إن لم يُحَبّ. ويسوع يشتهيك، ويطالب بحياتك... بزهرة شبابك، ليُفيض روحه فيك ويجعل من نفسك محراب حضوره ومقامه. وبما أنّه متعطّش الينا فلنوفّر له هذا الفرح، فرح الوقوف الى جانبه، ولا نذهبنّ اليه بدافع الواجب أو الخوف أو التقليد، وإنّما بدافع "إسعادنا له".

١ـ٤ قد يملّقنا الاعتقاد بأنّنا نستطيع التصرّف على هوانا إذ ندرك أنّ الله مخلص لنا، وبأنه يمكننا ارتكاب ما يحلو لنا من خطايا إذ نتأكّد من صفحِه عنّا وغفرانه لنا. فما حاجتنا الى إجهاد أنفسنا في ممارسة الفضائل وهو يسامحنا كلّما خطئنا إليه! إن نحن اعتمدنا طريقة التفكير هذه، نكون قد أخطأنا فهم حبّ الله، واستغلّينا طيبة قلبه. فحذار من إهانة رحمته. ولْنَعِشها على أنها ملاذ خلاص وليس ممرًّا مباشرًا للاستهتار والتهتّك.

١ـ٥ والحبّ يستدعي الحبّ! وهذه الشرعة محفورة في قلبك. فإن كنتَ تعرف أنّك محبوب حقًّا، ستحاول أن تبادل الحبّ بالحبّ وتستجيب لندائه. لقد سبق لك أن شعرت برغبة في شكر شخص أثّر فيك لطفُه. فإعرابه لك عن حبّه أثار فيك،على عجل، رغبةً في مبادلته الحبّ إيّاه. وهذا ما نشعر به في علاقتنا مع المسيح. فبقدر ما ندرك عمق حبّه تزداد رغبتنا في مبادلته حبًّا بحبّ. وعندما يُظهر لنا حبّه الجنونيّ، بصفحه عنّا، نشعر برغبة في أن نبادله هذا الحبّ بإخلاص، وبحياة نقضيها طبقًا لما يودّ. إذًا، صرتَ تشعر بأنّ عيش الرحمة يحرّض على الفضيلة وليس على الرّزيلة.

٢ـ لنستمع الى تريز

٢ـ١ الرحمة والحق تعانقا (مزمور ٨٥،١١)

"يا أمي الحبيبة! ألا يمكنني،   بعد هذا الفيض من النعم، أن أُنشد مع صاحب المزامير: ان الربّ صالحٌ وان رحمته الى الأبد (مزمور ١١٧،١)؟ يخيّل إليَّ أنه لو حظيتْ جميع الخلائق بالنعم نفسها التي حظيتُ بها، لما خافَ الله أحدُ من الناس، بل لأحبّه الجميع حتى الجنون، ولما رضيتْ نفسٌ قط بإغاظته، وذلك ليس بدافع الرهبة والخوف، بل بدافع الحبّ. ولكنّي أفهمُ ان جميع النفوس لا يمكنها أن تتشابه، ويتحتّم وجود عائلات متباينة منها، بغية تمجيد كلّ واحد من كمالات الله؛ أما أنا، فقد منحَني رحمته اللامتناهية، ومن خلالها أُشاهدُ وأعبدُ كمالات الله الأخرى!... وإذا بجميعها تبدو لي مشعّةٌ بالحبّ، حتى العدالة نفسها (وقد تكون هي أكثر من غيرها) تبدو لي متوشّحة بالحبّ...

ما أعذب الفرح حينما أفكر في أن الله عادل، أي أنه يُراعي ضعفنا، وأنه يعرفُ تمام المعرفة وهنَ طبيعتنا! فمِمّ أخاف إذًا؟  آه! لا ينبغي أن يكون الله، اللامتناهي عدله، والذي تنازل  وغفر بجودة لا تُقاس جميع خطايا الابن الشاطر، عادلاً أيضًا نحوي أنا التي معه في كلّ حين               (لوقا ١٥،١٣) ؟"

(مخطوط ص ٧٣ ش؛ الأعمال الكاملة ص ١٧٥ـ ١٧٦)

٢ـ٣ القديسون والخطأة يعيشون من رأفة يسوع

... " وأقرُّ بأنّي لولاه، لسقطتُ تمامًا حيث سقطت القديسة المجدلية. والكلام البعيد المرمى، الذي ألقاهُ الربّ الى سمعان [الفريسي]، رنَّ في نفسي رنينًا عذبًا... وأعرف أن الذي يُغفَرُ له القليل، فإنه يحبّ قليلاً (لوقا ٧/  ٤٠ ـ ٤٧). بيد أني أعلم أيضًا أن يسوع قد غفر لي أكثر مما غفر للقديسة المجدلية؛ لقد غفر لي مُسبقًا فحفظني من السقوط. آه! لكم أودّ الاعراب عما أشعر به في نفسي!...

وهوذا مثل يترجمُ فكري ببعض الوضوح. لنفترض أن ابن طبيب ماهر عثرَ في طريقه بحجر أوقفه، فانكسر أحد أطرافه في هذه السقطة. فسرعان ما يُهرَعُ إليه أبوه، ويُنهضه بعطف، ويضمّد جراحه، مستخدمًا لذلك كل وسائل مهارته. أما ابنه الذي شُفيَ سريعًا فيُعرب له عن شكره. لا ريب في أن هذا الولد مصيب في حبّ أبيه.

ولكني سأفترض أيَضًا افتراضًا آخر: لما علم الأب أنّ في طريق ابنه حجرًا، أسرع الى أمام ابنه ورفع الحجر من حيث لا يراه أحد. فمن المؤكد أن هذا الابن، موضوع حنانه السبّاق، وهو لم يعلم بالمصيبة التي أنقذه منها أبوه، لن يُعرب له عن شكره، وسيحبّه أقلّ مما لو كان فاه... أما إذا علم بالخطر الذي نجا منه، أفلا يحبّ أباه اكثر؟ في الحقيقة، أنا هي تلك الابنة موضوع حبّ الأب المحترس، هذا الأب الذي لم يرسل كلمته ليفتديَ الأبرار بل الخاطئين. هو يريد ان أحبه لأنه غفر لي، ليس فقط كثيرًا، بل كلّ شيء. ولم ينتظر أن أحبه كثيرًا مثل المجدلية القديسة، بل أراد أن أعرف كيف أحبّني حبًّا لا يوصف، لكي أحبّه الآن حتى الجنون! ... ولقد سمعتُ من يقول: إنه ما وُجدتْ نفسٌ طاهرة تحبّ الله فوق ما تحبّه نفس تائبة. آه! ما أشدّ رغبتي في تكذيب هذا القول!..."

(مخطوط أ ص ٣٨ ش؛ الأعمال الكاملة ص ٩٥)

٢ـ ٣ لو كان ضميري مثقلاً بجميع الخطايا...

أجل، إنّي لشاعرة بأني، ولو كان ضميري مثقلاً بجميع الخطايا التي يمكن ارتكابها، لمضيت، والقلب منسحق ندامة، فارتميت بين ذراعي يسوع، لأني أعلم مدى حبّه للابن الشاطر العائد إليه.

(مخطوط ج ص ٣٦ـ الأعمال الكاملة ص ٢٤٦)