راعٍ ليس كباقي الرعاة «أضواء

 

 

 

 

ماذا يمثّل وجه الراعي بالنسبة لإنسان الكتاب المقدّس؟ إنّه يمثّل الرؤساء الدينيّين، لكن أيضًا الرؤساء السياسيّين، بما أنّ السياسة والدّين كانتا مرتبطتين لحدّ بعيد في تلك الأيام. فالرّاعي هو الذي يحكم ويقود من خلال الطُرق الصحيحة. إنّه سلطة من أجل الخير العام.

بالإضافة إلى أنّ الرّاعي يستفيد من القطيع، يستغلّه إنّ صح التعبير. إذن هناك تبعيّة متبادلة بين الراعي والقطيع، ولكن هدف الرّاعي ليس القطيع إنّما نفسه. والرّاعي الذي يتحدّث عنه يسوع في إنجيل (يو 11/10-18 ) ليس بمالك القطيع، إنّه مجرّد « أجير» مدفوع لكي يهتم بالقطيع ممّا يضع بُعد إضافي بينه وبين القطيع الذي يهتم به.

الراعي الصالح بالمفرد، إنّه فريد، مُقابل قطيع مؤلّف من العديد من الحيوانات. كلّ هذه الصفات لها أهميتها وسوف نرى كيف أنّ المسيح عندما يتحدث عن «الراعي الصالح»، يعدّل من هذه الصفات لدرجة أنّه يقلبها رأسًا على عقب. هذا الأمر يؤدّي إلى تغيير نظرتنا لله: فمن كثرة استعمالنا للألقاب الملكية لله لم نعد قادرين أن نرى فيه سوى المعلّم الديكتاتوريّ وحتى المزاجيّ؛ ملكٌ يُريد أن يتلاعب بنا بحسب رغباته.

هذا الإله له علاقة مع الراعي السيء الذي يتحدث عنه النبي حزقيال 34: « وَيلٌ لِرُعاةِ إِسْرائيلَ الذينَ يَرعَونَ أَنفُسَهم. أَلَيسَ على الرُّعاةِ أَن يَرعَوا الخِراف؟ إِنَّكم تَأكُلونَ الأَلْبانَ وتَلبَسونَ الصُّوفَ وتَذبَحونَ السَّمين، لكِنَّكم لا تَرعَونَ الخِراف. الضِّعافُ لم تُقَوُّوها والمَريضةُ لم تُداوُوها والمَكْسورَةُ لم تَجبُروها والشَّارِدَةُ لم تردُّوها والضَّالَةُ لم تَبحَثوا عنها، وإِنَّما تَسَلَّطتُم علَيها بِقَسوَةٍ وقَهْر» .

كلّ واحدٍ لنفسه والكلّ معًا: من المؤكّد أننّا لا نحب أن نُقارن بالقطيع. هذا الأمر يجعلنا نشعر بأنّنا نفقد خصوصيتنا وفردانيتنا، وأننا واحد من القطيع، مجرّد أرقام. ويسوع يعكس هذه الصورة: الرّاعي الصالح يعرف خرافه وينادي كلّ واحدٍ منها باسمه.

الخروف بالنسبة للرّاعي الصالح ليس بشيء يمكن تبديله عندما يشاء، إنّما شخصيّة فريدة، ولهذا السبب لا يتخلّى عن الخروف الجريح، أو المريض، أو الضائع. كلّ واحدٍ منها فريدٌ بنظر الله ولا يجوز أبداً أن يضيع أيّ منها.

ولكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يتكلّم عن القطيع؟ لأنّ كلّ ما نحن عليه، كلّ ما يشكّل فرديتنا يجب أن يصبّ في أساسٍ واحدٍ مشترك لكي نحقق الجسد الواحد على صورة الله الذي هو اتحاد، ثالوث. هنا نلمس بأنّ الواحد والمتعدد تصالحوا، كما يُعبّر عن هذه المصالحة بولس الرسول: « وكما أَنَّ الجَسَدَ واحِدٌ ولَه أَعضاءٌ كَثيرَة وأَنَّ أَعضاءَ الجَسَدِ كُلَّها على كَثرَتِها لَيسَت إِلاَّ جَسَدًا واحِدًا، فكذلكَ المسيح. فإِنَّنا اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا، أَيَهودًا كُنَّا أَم يونانِيِّين، عَبيدًا أَم أَحرارًا، وشَرِبْنا مِن رُوحٍ واحِد».

فالقطيع ليس كباقي القطعان، حيث يمكن تبديل الخراف بين بعضها البعض. نستنتج من هذا كلّه بأن سلطة الرّاعي الصالح، سلطة الله نفسه، لا علاقة لها مع ما نضع عادة وراء هذه الكلمة. سلطة الرّاعي الصالح هي سلطة تؤسس وتنمي. ومنتهى ممارسة هذه السلطة هي حرّيتنا فوق كلّ الضغوطات التي تُمارسها علينا كل من الطبيعة والحياة.

الراعي يبذل نفسه: الرعاة يعيشون من خرافهم. بينما المسيح يبذل نفسه في سبيل خرافه. لا شكّ بأنّ هذه الكلمات تُشير في فمّ يسوع إلى الفصح القريب. وفي يوم من الأيام سيقول يسوع لتلاميذه «خذوا فكلوا هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم، خذوا فاشربوا هذا هو دمي الّذي يُهراق لأجلكم». ومع بداية الفصل 6 في إنجيل يوحنا نقرأ: من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية، ثبت فيّا وثبتُّ فيه. ليس القطيع من يُغذّي الرّاعي، بل الرّاعي يُغذّي القطيع من جسده. إنه يريد لقطيعه أن يكون في الحياة: «جئت لتكون لهم الحياة وتفيض فيهم».

لهذا السبب يدخل الراعي الصالح من باب الحظيرة، ويدعو كلّ واحدة منها باسمها ويُخرجها. يُخرجها، يقودها إلى الخارج، إنها عبارات الخروج نفسها، أي الفصح والذي هو تاريخ تحرّر. لذلك إذا كان يسوع هو موسى الجديد الذي سيجمع شعب الله، فليس من أجل الاحتفاظ به في مكانٍ مغلق وآمن، إنّما ليحررهم من كل انغلاق، ويُخرجهم نحو أرض الحرّية، كما في السابق عندما أخرج موسى شعبه من بيت العبوديّة.

هذا المكان المغلق وبدون مخرج، هذه الحظيرة، هي صورة عالمنا، مغلق تمامًا في العبوديات، وخاصة وأكبرها هي عبودية الموت. ويسوع أتى ليُقيم فتحة في هذا العالم المغلق. إنّه أوّل من عبر من الباب الضيّق للموت، الذي أصبح مفتوحاً من الآن فصاعدًا، على أراضي الحرّية، لكي نعبر بدورنا على خطاه.

ولكن يسوع يقول لنا أمراً آخر. هذا الفصح، هذا العبور من كلّ أنواع العبوديّة، عبوديتنا لضعفنا، لطمعنا ونزواتنا وموتنا باتجاه حرية أبناء الله، ليس بهجرةٍ باتجاه قطيع مجهول. في هذا العبور النهائي كل منا مدعو باسمه. وكيف لنا ألاّ نكون حساسين لهذا الصوت الذي يكلمنا عن أبانا؟

فالآب هو الذي يسلّمنا لابنه، وإذا كان يسوع يطلب منّا اتباعه، فلكي يقودنا إلى هذا الآب الذي هو مصدرنا. بهذا نعرف بأن المسيح هو الراعي الصالح: فهو لا يحتفظ بنا لذاته، لا يمتلكنا. هذا الراعي هو أيضاً عبّار، من يعبر بنا. إنّه يغوينا دون أن يستعبدنا. يجذبنا إليه، لكن لكي نتوجه إلى الآب.

كلّ يوم نلتقي برجال ونساء بائسين وحائرين على أبواب الانحراف وبدون راعٍ. هنا علينا أن نتذكّر بأنّ الحياة التي يعطينا إياها الله لا يعطينا إياها فقط من أجل تهدئة رغبتنا في الحياة؛ إنّما، كما قال يسوع للمرأة السامرية يومًا، لكي تُصبح في كلّ واحد وواحدة منّا، عين ماء تتفجر حياة أبدية فيأتي الآخرون إليها ليرووا عطشهم.

فكلّ ما نأكله بالمقابل ليس بغذاء حقيقيّ، فهو لا يشكّل سوى تعليق مؤقت للموت. الإفخارستيا تعني كل ذلك. إنّها تجعل منّا قطيع واحد، جسد واحد، لكن المشاركة بهذا الجسد، أن نأكل من هذا الخبز لا يعطي ثماره إلاَّ إذا ابتلعنا كلمته أيضاً. أية كلمة؟ رسالة يوحنا الأولى تقول:« فمَن حَفَظَ وَصاياي أَقامَ في الله وأَقامَ اللهُ فيه. وإِنَّما نَعلَمُ أَنَّه مُقيمٌ فينا مِنَ الرُّوحِ الذي وَهَبَه لَنا». فوصية المسيح كما نعلم هي: أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم، ولكن بشرط أن « لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ».

بقلم الأب رامي الياس اليسوعيّ.