دون بوسكو: مثال الكهنة في تربية الشبيبة وتقديسها «أضواء
اختار الله دون بوسكو ان يعمل في حقله مع "الشباب بهجة الله". "فنفوسهم كنز ثمين مخبأ في حقل العالم”. فكتب القديس دون بوسكو في رسائله ":" قد ارسلني الله للشباب" . "واني مستعد ان أهب كل شيء لأربح قلوب شباب واقدمها للرب". وبرزت موهبته ككاهن مربي ورسول الشبيبة، وذلك امتدادا لمحبة يسوع الذي كان يدعو الشبيبة ليحبهم (مرقس 10/21) وليقبلهم (لوقا 9/44). وليباركهم (متى 19/14) وليشفيهم (يوحنا 4: 50) وليعيد اليهم الحياة (لوقا 7: 14) وليحررهم من عبودية الشيطان (متى 17: 18)، وليغفر لهم ( لوقا 15: 24)، وليعتمد عليهم لصنع المعجزات (يوحنا 6: 9) . فاصبح دون بوسكو مثال لتربية الشبيبة في عالم هو في امس الحاجة اليه. ومن هنا نتساءل أين سر نجاح دون بوسكو في تربية الشبيبة لإعادة صورة الكاهن المربي الصالح والكاهن الفاضل للشبيبة بعد فضائح التي شوّهت هوية الكاهن ورسالته التربوية مع الشبيبة ؟ يقوم سر نجاحه في روحانيتِه واسلوبِه التربوي.
أولاً : حياته
وُلِدَ في ابرشية تورينو 1815 . ومرَّ بطفولة قاسية. وقف جميع قواه الكهنوتية على تربية الشبيبة. فقام بنشاطات عديدة لهذا الغرض، وأنشأ رهبانية السالسيين(لتعليم الشباب العلوم والمهن وتربيتهم. وضع كتباً مختلفة في الثقافة الدينية والتربية . توفي عام 1888.
بدأت أفكار رسالته في تربية الشبيبة في سن التاسعة من عمره نتيجة حلم ملخصه انه رأى فيه نفسه بين صبية يلعبون ويجدفون ويتفوهون بكلام بذيء فحاول اسكاتهم بقبضته. فتراءت له امرأة تخبره انه ليس بالضرب، بل بالحب والوداعة يستطيع ان يغيّر القلوب. ذلك الحلم كان دعوة من الرب يسوع لإتباعه ولتحقيق رسالة خاصة للشبيبة المحتاجة وخاصةً الفقيرة والمهمّشة.
وتعهد من اليوم الأول من رسامته الكهنوتية 1841 ان يهب حياته لخدمة الشبيبة المحرومة . وفي عيد الحبل بلا دنس، استقبل أول صبي مشرد وتلى معه " السلام الملائكي"، وبعدها بدأ عدد الشباب يزداد حتى بلغ الأربعمائة .
وفي عام 1859 أبصرت الرهبنة السالسية النور في غرفة دون بوسكو المتواضعة مع ثمانية عشر شابا ومن بينهم نذكر، الشاب ميشيل روا 22 عاماً صار ثاني خليفة لدون بوسكو وقد زار الارض المقدسة، ويوحنا كالييرو الذي صار أوّل اسقف وكردينال سالسي.
وفي عام 1876 أسس جمعية رهبانية مكرّسة تكريساً كاملاً للعمل في سبيل الشباب وسمّاها الجمعية السالسية نسبة إلى شفيعها القديس فرنسيس دي سالس، أسقف جنيف المشهور بالحنان والوداعة.
وتوفي دون بوسكو في 31 كانون الثاني 1888 على عمر 73 سنة ودفن في كنيسة سيدتنا مريم العذراء معونة النصاري في تورينو. واعلنه البابا بيوس الحادي عشر قديسا في اول نيسان 1934 . لكن حلم دون بوسكو صار حقيقة وتلك البذرة صارت شجرة كبيرة تنتشر حتى بلغت 133 دولة منتشرة في قارّات العالم الخمس يحتمي في ظلّها ملايين من الشبّان في العالم بنعمة الرب وبعمل الروح القدس. واصبح دون بوسكو شفيع الشبيبة والطلبة. وعليه نتساءل أين سر نجاح دون بوسكو في تربية الشبيبة ؟
ثانياً: روحانيته
تقوم روحانية دون بوسكو على اربعة عناصر وهي:
- الايمان بالله والاتّكال على نعمته والثقة التامّة بحضوره الفعّال في كل خطوة كان يخطوها. وكثيرا ما كان يكتب هذه العبارة "الله يراني". "من أبطأ في هبة نفسه لله كان في خطر شديد بان يفقدَ نفسَه. من ملكَ الله، ملكَ كلَ شيء" .
- الإصغاء لإلهام الروح القدس بشكل مستمر
- اتخاذ المسيح معلمه الالهي مثال له في محبة الشبيبة والتعامل معهم وفي نشر رسالته وتعليمه وتأسيس رهبنته.
- الحضور المميّز لمريم أم المعونة في حياته . "مريم هي امنا" وعلى سؤال الصحفي بأيّ معجزة استطعت ان تُنشئ جميع هذه الدور في العالم . أجاب: "ان السيدة العذراء التي تعرف حاجات عصرنا ، تساعدنا ، صليت وفوّضت أمري الى السيدة" . وعلى فراش الموت قال: " هي فعلت كل شيء".
ثالثاً: اسلوبه التربوي
في عام 1884 سأل صحفي من جريدة رومة دون بوسكو : ما هي طريقتك في التربية ؟ فأجاب :"أنها في غاية البساطة: ان يُترك للأحداث الحرية ليعملوا ما يحلو لهم. والمسألة هي الكشف عن بزور خصالهم الحميدة وصنع ما يلزم لتنميتها. فكل أمرئ يطيب له ان يعمل ما يعرف انه قادر على النجاح فيه. إني أعتمد هذا المبدأ، وتلاميذي يعملون بأجمعهم لا بنشاط فحسب بل بمحبة أيضا. في ست واربعين سنة ، لم أنزل عقوبة بأحد قط. واجرؤ على القول ان تلاميذي يحبونني".
ومن هنا نستنتج بان "دون بوسكو" لا يعتمد على الاسلوب القمعي، بل على الاسلوب الوقائي ومفاده "تجنب خبرة سيئة أفضل من محاولة محو أثارهاط. فالأسلوب القمعي بمفهوم دون بوسكو "يقوم على اطلاع المرؤوسين على القانون، ومن ثم مراقبتهم لكشف المخالفين ومعاقبتهم فيحافظ الرئيس على كلام ونظرات قاسية متوعدة بعيدة عن كل اتصال ودود مع مرؤوسيه" . وهذا الاسلوب يشمل في مفهوم علم النفس الحديث الازدراء، الاحتقار، الامتهان، السخرية، التهكم، التبخيس، أحكام الدونية، التخويف والحرمان. أما الأسلوب الوقائي فيقوم على "تعريف الرئيس الانظمة السائدة للطلاب ثم يشرف عليهم كمرشد وأب عطوف ويسدي لهم النصائح ويصلح اخطاءهم مستندا الى العقل والدين والمودة". ومن هنا نبحث في هذه العناصر الاساسية الثلاثة في التربية.
العنصر الاول : الدين
الدين هو الوعي والإدراك للمقدس. فالله هو القدوس بل مصدر القداسة. فيطالب دون بوسكو اولاده بمحبة الله ومخافته وحفظ وصاياه والايمان بالعناية الالهية: " تذكّروا أيّها الأولاد أنَّنا إنَّما خُلقنا لنُحِبَّ الله خالقنا ونعبُدَه، فمخافةُ الله سبيل نجاحنا، وبها يتعلّق خيرنا الأبديّ والزمني معاً"."وفي قلب المِحَن الكبيرة ارتجِ الإيمان الكبير فالإيمان يصنع المعجزات". وعن الصلاة قال:" الصلاة تُضاعِف قيمة الأعمال. اقيموا صلوات حارة لينيركم الرب، فلا تخطأوا". وعن الاعتراف والتناول قال: "جناحان اثنان نطير بهما إلى السماء: الاعتراف والتناول،سالِمِ الله، تُسالمْ نفسَكَ والآخرين"، وعن سيدتنا مريم معونة المسيحيين حثّ طلابَه على الالتجاء اليها:" إبتهلوا إليها في الأخطار تُستجاب صلاتُكم". واما اعمال التقوى فهي" خيوط ترفعنا إلى الله وتُنزِل نعَمَه إلى نفوسنا". وطالب تلاميذه ممارسة الفضائل:"أجمل ما يتزيّن به الشاب، إنَّما هي الفضائل الأربع التالية: الإحتشام والتواضع والطاعة والمحبة. "الطهارة هي جزاء التواضع" ، "الطهارةُ زنبقةٌ بين أشواك يقطِفُها الله لِيُزيّن بها قلبه". وفي الطاعة قال: "كُن مطيعاً تَكُن قديساً". وطالب تلاميذه أخيرا بالاستفادة من الوقت: "يا بَنيّ لا تضيّعوا وقتكم فلا يضيّعكم الوقت في الأبدية"
العنصر الثاني : العقل
يعرّف الفيلسوف الفرنسي جولز سيمون التربية انها "الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً". وهذا ما يميز الانسان عن الحيوان كما يقول دون بوسكو "ان الانسان له عقل يفكر ويميّز ويعرف ما هو الخير وما الشر". لذا العقل بحاجة لسلطة المربي. وتقوم سلطة المربي برؤية دون بوسكو على الصبر وكشف المواهب والقدرات.
الصبر : " الغضبُ أسهلُ من الصبرِ، وتهديدُ الشابِّ أسهلُ من إقناعِهِ، بل وإنَّه لأسهلُ علينا في قلّةِ صبِرنا وكبريائِنا أن نَفرِضَ العقابَ على المشاكسين من أن نعملَ معهم على إصلاحِهم، واحذَرُوا من أن يَحكُمَ عليكم أحدٌ بأنَّكم سريعُو الغضبِ والاحتدام لا سيما حين يَفرِضُ العقابَ " لكي لا يتبادرَ إلى الذهنِ أنَّنا نفرضُ العقابَ لنُظهِرَ سلطتَنا أو حتى لنُروِيَ غليلَ غضبِنا". لا يجوز ان تغيب الشمس على غضبكم ولا يجوز ايضا تذكير بالإهانات الماضية المغفورة والاضرار السابقة.
فكيف اذن نواجه أخطاء الشباب ؟ إنَّهم أبناؤُنا، ولهذا كلَّما واجهَتْنا أخطاؤهم وَجَبَ أن نضعَ جانبًا كلَّ غضبٍ وأن نلتزمَ الهدوءَ إلى أقصى حدٍ. لا نعامِلْهم وفي نظرِنا احتقارٌ أو على فمِنا شتيمةٌ، بل لِنُعامِلْهم بالرحمةِ وبالأملِ في الإصلاحِ والتعديل. وفي الحالاتِ العسيرةِ جدًّا، من الأفضلِ رفعُ الصلاةِ إلى الله بتوسُّلٍ وتواضُع على مثال بولس الرسول، بدلاً من إطلاقِ سيلٍ من الكلماتِ والألفاظِ النابيَةِ التي تجرحُ نفسَ السامعِ، ولا تأتي بأيِّ علاجٍ للمُذنِب.
كشف المواهب والقدرات: "عمل المربي هو اكتشاف الامكانيات الحسنة التي يمكنه استثمارها في كل شاب". انطلق دون بوسكو من هذا المبدأ: "في قلبِ كلِّ شاب، وإن لَفَّهُ الشقاء، وَتَرٌ يَرِنُّ للخير. فأولى واجباتِكَ أن تكتشِف هذا الوتَر الحسّاس وتعزفَ عليه". واما عمل الشباب فهو: "ان يتبصروا ملياً وان يكثروا من التبصر والتروّي، لا سيما في اختيار المستقبل".
العنصر الثالث: المودة
التربية تبدأ بالقلب. فاهتم ّ دون بوسكو بالقلب " اللطف يجلب المودة والمودة تلد الثقة". "فللطف في التكلم والعمل والنصح يربح كل شيء ويربح الجميع. فان اردت الثقة ـ فابدأ وثق بغيرك". انك تنجح بنظرة محبة وكلمات تشجيع وثقة أكثر من التوبيخ الذي يثير القلق والاضطراب في النفس". فعلى المربي ان "يكون محبوبا ليس مرهوباً". "كُنْ محبوباً فتُطاع". "أقول لكم صراحة اني اكره العقاب. ان نظرة غير وديه الى البعض من الطلاب لها أثر في القلب، أعمق من لطمة شديدة. كذلك فان المديح عند اتقان العمل، واللوم عند اهماله هما في ذاتهما مكافأة او عقاب. وكم من نفسٍ خلَّصَها المثالُ الصالح! وكم من نفسٍ أهلكها المثال السيئ" !
خلاصة
قد أثبت اسلوب دون بوسكو نجاحا ملحوظاً في حقل التربية والتبشير. فترك لنا دون بوسكو روحانيته واسلوبه التربوي في جو الروح الديني الكنسي المريمي التي جعلت منه شخصاً عصريا ومثالا للكهنة المربيين الذين يبادرون بهمسة في أذن الشاب: "اذا ساعدتني، فاني أريد ان اجعلك سعيدا في هذه الحياة وفي الحياة الاخرى". فكانت وصيته الاخيرة :"قولوا لأولادي اني انتظرهم جميعا في الفردوس". لنردد هذه الصلاة التي تعلمها المطران كالييرو من دون بوسكو لمّا كان طفلا وصلّها في ساعة نزاع ابيه دون بوسكو: " يسوع ومريم ومار يوسف، أعطيكم قلبي ونفسي وحياتي.
يسوع ومريم ومار يوسف، ساعدوني في نزاعي الاخير
يسوع ومريم ومار يوسف، اجعلوني أموت وأنا أنعم بلطف صحبتكم". آمين
الأب الدكتور لويس حزبون