توبتنا وتغيير حياتنا(2) «أضواء
قد يتغير إنسان ويسير في الفضيلة، ولكنه لا يعتبر تائباً إلا إذا استمر في حياة الفضيلة دون أن يرجع إلى الوراء. فكثيرون يظنون أنهم تابوا، وأن حياتهم قد تجددت، ويستمرون في هذا الوضع الجديد مدة، ثم تحدث لهم نكسة روحية، فيرجعون إلى أخطائهم، والبعض يقومون ثم يسقطون، ثم يقومون ويسقطون. وفي هذه الذبذبة لا نستطيع أن نقول إنهم تابوا.. ربما يكونون في مجرد محاولات للتوبة.
إن ترك الخطيئة ولو إلى فترة، ليس هو التوبة الحقيقية.. فقد يبتعد الشخص عن الخطيئة، أو تبعد الخطيئة عنه، ليس لأنه قد صار باراً، وإنما لأنه في هذه الفترة بالذات غير محارب بهذه الخطيئة بالذات.
إن الشرير ذكي في حروبه، يعرف متى يحارب، وكيف يحارب، وبأية خطيئة يحارب الإنسان، وإن وجد الإنسان مستعداً استعداداً كاملاً ومتحفزاً كل التحفز لمواجهته في ميدان معين، قد يترك هذا الميدان ويحاربه في موقع آخر.
فإن وجدت نفسك مستريحاً فترة ما من خطيئة معينة، لا تظن أنك قد صرت نقياً من جهتها. ربما يكون الشيطان قد تركك إلى حين ريثما يعد لك كميناً في موضع آخر، ثم يرجع إلى محاربتك مرة أخرى على حين فجأة بهذه الخطيئة التي ظننت أنك قد تبت عنها. لذلك كن حريصاً باستمرار، يقظاً باستمرار، مستعداً باستمرار، لأنك لا تعرف في أية ساعة أو بأي شكل تأتيك الحرب الروحية..
قد تستريح فترة من خطيئة معينة بالذات، ليس لأنك تبت عنها، وإنما بسبب شفقة الله عليك. أراد لك فترة راحة حتى لا تكل في الجهاد، أو لكيلا تقع في اليأس.. وربما تكون الخطيئة قد بعدت عنك بسبب صلوات بعض القديسين الذين تشفعوا فيك أن يمد لك الله يد المعونة حتى لا تسقط. ربما تكون القوة الحافظة المحيطة بك هي التي دافعت عنك، ولا يكون قيامك راجعاً لتوبة..
هناك إذن فرق كبير بين إنسان منتصر في حياته الروحية، وإنسان غير محارب. وتظهر التوبة على حقيقتها إذا حوربت فانتصرت. وقد ينتصر إنسان في حرب خفيفة ولكنه يضعف ويسقط إذا كان أغراء الخطيئة شديداً وقاسياً. أما التائب الحقيقي فهو رجل الله الذي يحارب حروب الرب في عنفها وينتصر. تضغط عليه الخطيئة في أشد إغراءاتها، وفي أقسى صورها، وفي أقصى حدودها، وينتصر. ويستمر أمامه الاغراء، ويستمر في نصرته.. مثل يوسف الصديق.
هذه هي التوبة. إنها حياة النصرة. حياة الإنسان الذي يجاهد من أجل الرب وينجح. حياة القلب الذي يرفض الخطيئة مهما ضغطت عليه..
ترك الخطيئة هو بداية حياة التوبة. أما كمال التوبة فليس هو ترك الخطيئة، وإنما هو كراهية الخطيئة. وقد يكره الإنسان الخطيئة أحياناً بعض الوقت اشمئزازاً منها أو كرد فعل لبشاعتها، ثم يرجع بعد حين، بعد زوال هذا الانفعال فيشتاق إليها مرة أخرى. ليست هذه هي التوبة. إنما التوبة هي كراهية حقيقية للخطيئة، كراهية دائمة بسبب أن هذه الخطيئة لم تعد تتفق إطلاقاً مع طبيعة الإنسان الجديدة التي تجددت بالتوبة..
على أن كراهية الخطيئة هي حالة سلبية. أما الحالة الإيجابية فهي محبة الله. والتوبة الحقيقية هي النتيجة الطبيعية لدخول محبة الله في القلب. إنها استبدال شهوة بشهوة. إنها حلول شهوة البر محل شهوة العالم. حلول الله محل العالم في قلب الإنسان.
التوبة هي الدرجة الأولى في السلم الروحي. منها يرتقى الإنسان درجة درجة في حياة القداسة والنقاوة حيث يصل أخيراً إلى الكمال. والكمال هو قمة السلم الروحاني..
التوبة هي تغيير حياة. والذي حياته جميلة في عينيه، كيف يغيرها؟! إنه إن لم يشعر بسوء حالته، فلا يمكن أن يتوب ويغير حياته.
كذلك لا يتوب، من لا يبكت نفسه، ومن يرفض تبكيت الآخرين. ومن يظن أنه دائماً على حق، وأن عبارات (توبوا، وارجعوا) هي بالطبع موجهه إليه، لا إلى غيره. وكذلك من يترك أذنيه لسماع كلام المديح ويصدقه، ومن يفسر وصايا الله حسب هواه، ويرفض أن يبكت ضميره بسببها.
التوبة سهلة للمتواضعين. وصعبة على المتكبرين في أعين أنفسهم. إنها سهلة للعشار المنسحق الشاعر بخطاياه، وصعبة على الفريسي الذي يفتخر في صلاته قائلاً: أشكرك يا رب إني لست مثل سائر الناس الظالمين الخاطفين الزناة.
التوبة سهلة للمرأة الخاطئة التي بللت قدمي المسيح بدموعها. وصعبة على سمعان الفريسي الذي ظن انه ليس خاطئاً مثلها. ولذلك حسناً أن الرب أظهر له إنه هو وهي مديونان. ولكنه ليس له نفس حبها، إذ يري دينه أقل بكثير (لو 7).
التوبة سهلة على الذين يعرفون أنهم خطأة، ويعترفون أنهم خطاة. أما الأبرار في أعين أنفسهم، فعلى أي شيء يتوبون؟! مادام لا يعترفون بأنهم أخطأوا في شيء! حقاً: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، أي الذين يظنون في أنفسهم أنهم أصحاء..!
هؤلاء، حتى إن جابههم أحد بخطيئة، إما أن ينكروها، أو يفسرها تفسيراً ملتوياً، أو يحملوا مسؤوليته على غيرهم، أو يجادلوا ويبرروا أنفسهم.. ولكنهم لا يعترفون بخطأ، وبالتالي لا يتوبون.. ربما الذين يقفون أمام الناس كقدوة لهم، من الصعب أن يقولوا إنهم محتاجون إلى توبة. ليت هؤلاء يكونون أيضاً قدوة للناس في الاعتراف بالخطأ وبالاحتياج إلى توبة.
لذلك نقول إن التوبة قد تكون سهلة للموعوظ، وصعبه على الواعظ والخادم والمرشد ومن في مستواهم.
من عوائق التوبة أيضاً عدم وجود مخافة الله في القلب. وكما قال مار اسحق: حيث لا توجد المخافة، لا توجد التوبة أيضاً. البعض ينفرون من المخافة باسم المحبة. ولبعدهم عن المخافة يقعون في اللامبالاة، ويسقطون في خطايا. وبهذه الخطايا يبرهنون على أنه ليست لهم المحبة التي تطرح المخافة إلى الخارج (1 يو 4: 18). مخافة الله تشعر الإنسان بخطاياه، فتدفعه إلى التوبة.
صديقي.. في النهاية أريد أن أقول لك: التوبة ليست مجرد ندم ولكنها تعني تغيير الاتجاه والتحول لله.. التوبة هدفها هو "كيف أحب الله..." وليس أبدا "كيف أترك الخطيئة".. كونوا كاملين"، فالكمال كالأفق، هو آخر ما تصل إليه رؤيتك. عنده ترى السماء والأرض متعانقتين.
فإذا ما وصلت إليه ترى آفاقاً أخرى في انتظارك بعيداً عنه. وعندما تصل إلى هذا الأفق الآخر تتطلع إلى أفق أبعد. وتظل تنتقل من أفق إلى فوق، ترقى من كمال إلى كمال أعلى. وأعلى ما يصل إليه الإنسان من كمالات هو جهله، بالنسبة إلى كمال الله الذي فيه يتركز الكمال الذي لا حد له.
الأب بيوس فرح ادمون