تأملات مراحل درب الصليب- وجه المسيح، وجه الانسان- «أضواء
تأملات مراحل درب الصليب التي سيترأسها البابا فرنسيس يوم الجمعة العظيمة.
المقدمة
"والذي عاين شهد، وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم.لأنّ هذا كان ليتم الكتاب القائل: «عظم لا يُكسر منه».وأيضا يقول كتاب آخر: «سينظرون إلى الذي طعنوه»". (يوحنا 19، 35 – 37)
يا يسوع الحبيب،
صعدتَ الجلجلة دون تردد، لتفي بحبكَ
وسمحتَ بأن تُصلب دون أن تفتح فاك.
يا ابن مريم المتواضع،
أخذتَ على عاتقكَ ظلماتنا
فأظهرتَ لنا نورًا كثيرًا كفيلاً
بأن يُليّن قلوبنا.
ففي آلامكَ، خلاصنا
وفي دموعكَ، رسمُ "ساعة"
الكشف عن حبّ اللّه المجاني.
سامحتنا سبعَ مرّات
وأنت تتلفظ أنفاسكَ البشريّة الأخيرة بين البشر
فأخذتنا جميعًا الى قلب الآب
لكي تدُلّنا من خلال كلماتكَ الأخيرة
على طريق الخلاص لكلّ من آلامنا
أنتَ، الكلمة المتجسد، هلكتَ على الصليب
ولم يفهمكَ أحدٌ سوى هذه الأمّ
التّي كانت "تقف" بأمانةٍ عند أقدامك.
ظمأُكَ منبعُ رجاءٍ لا ينضب
ويدٌّ ممدودة للخاطئ التائب حتّى
الذّي، وبفضلك اليوم، يا يسوع العذب، يدخل الملكوت.
هبنا جميعًا، يا يسوع المصلوب
رحمتكَ اللامتناهيّة
فتفوح كطيب بيت عنيا على العالم
وتدوّي صرخة حياةٍ للبشريّة
وإذ نسلّم أخيرًا أنفسنا بين يدَي أبيكَ إفتح لنا باب الحياة التّي لا تنطفئ! آمين.
المرحلة الأولى
يسوع محكومٌ عليه بالموت
إصبع الاتهام
"فناداهم أيضا بيلاطس وهو يريد أن يطلق يسوع، فصرخوا قائلين: «اصلبه! اصلبه!» فقال لهم ثالثة: «فأي شر عمل هذا؟ إني لم أجد فيه علة للموت، فأنا أؤدبه وأطلقه». فكانوا يلجّون بأصوات عظيمة طالبين أن يصلب. فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة. فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم. فأطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل، الذي طلبوه، وأسلم يسوع لمشيئتهم." (لوقا 23، 20 – 25)
خوف بيلاطس الذّي لا يبحث عن الحقيقة وأصابع الاتهام وصراخ الحشد المتزايد هي الخطوات الأوّلى التّي أخذت يسوع الى الموت وهو بريءٌ كالنعجة يُقدم دمّه فداءً عن شعبه. فيسوع الذّي مرّ بنا شافيًّا ومباركًا محكومٌ عليه الآن بالإعدام ولا كلمة شكر من الجمع المحتشد الذّي اختار إنقاذ باراباس. الوضع محرج بالنسبة لبيلاطس ما دفعه الى التبرّي من القضيّة بعد أن صبّ غضبه على الحشود، هو المتعلق أشدّ التعلق بنفوذه. أسلم يسوع للصلب غير راغبٍ بمعرفة المزيد عنه فالصفحةُ طويَت بالنسبة إليه.
تتضمن الإدانة المتسرعة ليسوع الاتهامات السهلة والأحكام السطحيّة التّي يُطلقها الناس والتلميحات والأفكار المسبقة التّي تُعمي القلوب وتُنتج ثقافة التعصب والعزلة والتهميش عن طريق الرسائل المجهولة والافتراءات الرهيبة. فيتصدّر المتهم الصفحات الأولى فورًا في حين يُترك خبر تبرئته للصفحات الأخيرة.
ونحن؟ هل نتمتع بضميرٍ مسؤول يشهد للحقّ ولا يُدير ظهره للبريء بل يأخذ موقفًا شجاعًا ليُدافع عن الضعفاء من خلال مقاومة الظلم والدفاع عن الحقيقة المستورة؟
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع
بين البشر من يُساعدُ بسواعده ومن يوقّع بيده إدانات مغرضة
ساعدنا بنعمتكَ على عدم رفض أحد
واحفظنا من الإفتراءات والأكاذيب.
ساعدنا لكي نبحث دائمًا عن الحقيقة
ونساعد الضعفاء
فنرافقهم الطريق
دون الحكم عليهم أبدًا أو إدانتهم. آمين.
المرحلة الثانية
يسوع يحمل الصليب
حِملُ الأزمة الثقيل
"الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عنا لخطايا فنحيا للبر. الذي بجلدته شُفيتم.لأنكم كنتم كخراف ضالة، لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها". (رسالة بطرس الأولى 2، 24 – 25)
ثقيلٌ هو خشب هذا الصليب إذ يحمل يسوع عليه جميع خطايانا فيترنح تحت ثقل حملٍ كبير يتخطى قدرة الإنسان الواحد على حمله.
وهو أيضًا حمل الظلم كلّه الذّي أدى الى نشوب الأزمة الاقتصاديّة وتابعاتها الاجتماعيّة الخطيرة: الفقر والبطالة والتسريح من العمل والمال الذّي يحكم ولا يخدم والمضاربات الماليّة وحوادث انتحار المقاولين والفساد والندم وهجرة الشركات.
هذا هو صليب عالم العمل الثقيل والظلم الذّي يتكبّده العمال. يتبنى يسوع ثقل أحمالنا ويُعلّمنا أن لا نعيش في الظلم بعد الآن بل أن نتمكن بمساعدته من خلق جسور تضامن ورجاء فلا نكون خرافًا ضالةً ضائعة خلال هذه الأزمة.
فلنَعُد إذًا الى المسيح، راعي نفوسنا وحاميها ولنكافح معًا من أجل خلق فرص عمل متبادلة فنقهر الخوف والعزلة ونعيد للسياسة اعتبارها ونسعى معًا الى حلّ المشاكل. يُصبح حمل الصليب أقل وطأةً إن حملناه مع يسوع ورفعناه جميعًا لأنّنا بجراحه البالغة شُفينا(مراجعة رسالة بطرس الأولى 2، 24).
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
لا ينفك ليلنا يزداد ظلمةً
والفقر يتحول بؤسًا!
لا خبز نقدمه لأولادنا وشباكنا فارغة.
مستقبلناغيرأكيد فمُنّ علينا بفرص العمل التّي تنقصنا
وأشعل فينا الحماسة لتحقيق العدالة
فلا تتدحرج حياتنا كالكرة
بل نعيشها بكرامة. آمين.
المرحلة الثالثة
يسوع يقع للمرّة الأولى
الهشاشة التّي تفتح لنا آفاق الترحيب
"لكنّ أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها. ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامناعليه، وبجرحه شُفينا". (سفر اشعياء 53، 4 – 5)
نتأمل مندهشين في محطة الألم الكبير هذه يسوعًا هشًّا وبشريًّا الى حدٍ كبير. إلاّ أنّ سقوطه هذا هو ما يُظهر لنا تحديدًا عمق حبّه لنا، فالجموع تدوسه وصراخ الجنود يُعييه وجروح الجَلد تُحرقه وهو يشعر بمرارةٍ داخليّة لا وصف لها بسبب نكران البشر للجميل. فها هو يسقط أرضًا!
إلاّ أنّ يسوع وفي سقطته تلك وفي هذا الاستسلام للحِملِ والتعب برهن مرّةً جديدة أنّه سيّد الحياة. فيعلّمنا قبول مَواطن ضعفنا وعدم الإستسلام بسبب إخفاقاتنا والاعتراف بإخلاصٍ بحدودنا. فكما يقول القديس بولس "الرغبة في الخير هي باستطاعتي وإمّا فعله فلا." (الرسالة الى أهل روما 7، 18)
يُساعدنا يسوع من خلال هذه القوّة الداخليّة التّي يستمدها من الآب على الترحيب أيضًا بهشاشة الآخرين والى عدم صبّ غضبنا على مَن سقط أو عدم المبالاة بمَن يسقط. ويمدّنا يسوع بالقوّة لكي لا نغلق الباب في وجه مَن يطرقه علينا طالبًا اللجوء أو الكرامة أو الوطن. فعندما نُدرك هشاشتنا، نستقبل بيننا هشاشة المهاجرين فنسمح لهم بايجاد الأمن والرجاء. يَظهر وجه إلهنا الحقيقي في ماء حوض العليّة القذرة أي في هشاشتنا! ولذلك: "ما تعرفون به روح اللّه هو أن كلّ روحٍ يشهد ليسوع المسيح الذّي جاء في الجسد كان من اللّه" (رسالة يوحنا الأولى 4، 2)
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع
يا من تواضعتَ لتخلّصنا من ضعفنا
ساعدنا على التواصل حقيقةً
مع أخوتنا الأكثر فقرًا
إقتلِع من قلوبنا جذور الخوف واللاّمبالاة السهلة
التّي لا تسمح لنا بالتعرّف إليكَ في وجوه المهاجرين
لكي نشهد أن لا حدود لكنيستكَ وأنّها أمّ الجميع! آمين.
المرحلة الرابعة
يسوع يلتقي أمّه
الدموع المُتضامنة
"وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: «ها إنّه جُعل لسقوط كثيرٍ من الناس وقيام كثيرٍ منهم في اسرائيل وآيةً معرضةً للرفض وأنتِ سينفذ سيفٌ في نفسكِ" (لوقا 2، 34 – 35)."إفرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين، كونوا متّفقين" (الرسالة الى أهل رومة 12، 15 – 16)
إنّ لقاء يسوع بأمّه مريم مؤثّرٌ جدًا وفيه الكثير من الدموع الحزينة فتظهر من خلاله قوّة الحبّ الأمومي التّي لا تُقهَر والتّي تفوق كلّ الحواجز وتفتح كلّ الطرقات إلاّ أنّ نظرة مريم المتضامنة التّي تشارك من خلالها إبنها آلامه وتشجّعه أكثر قوّةً. ويمتلئ قلبنا تعجّبًا لدى تأمُّلنا عظمة مريم التّي جعلت نفسها "قريبةً" من خالقها وربّها وإلهها.
جمعت مريم الدموع التّي تُذرفها كلّ الأمهات من أجل أولادهنّ البعيدين أو المحكوم عليهم بالموت أو الذّين ذُبحوا وقُتلوا خلال الحرب وخاصةً الأطفال الجنود. جمعت مريم أنين الأمّهات الذّي يُفطر القلب على أولادهنّ الذّين يُنازعون أورامًا تسبّبت بها حرائق النفايات السامّة.
إنّها دموعٌ مريرةٌ للغاية! ووقفةٌ تضامنيّة إزاء عذاب الأطفال وسهر الأمّهات اللواتي لا يغمض لهن جفنٌ قلقات على مصير شبابٍ يتخبطون في الفقر أو غارقين في بحر المخدرات والكحول. لن نكون شعباً يتيماً أو شعباً منسيّا أبدًا ونحن الى جانب مريم! فكمّا قدمت مريم للقديس خوان دييغو لمستها الأموميّة المعزيّة هكذا تفعل معنا وتقول: "لا يضطربْ قلبُكم... ألستُ هنا، أنا أمَّكم؟" (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 286)
صلاة
باركيني يا أمّي
وباركي منزلي
تفضّلي بتقديم كلّ ما يتوجب عليّ القيام به اليوم الى اللّه
بالإتحاد مع فضائلكِ وفضائل إبنك القدوس
أقدّم لكِ ذاتي وما أملك، واضعًا إيّاهم في تصرّفكِ
وواضعًا نفسي بكلّيّتها تحت عباءتكِ
أعطني، سيدتي، نقاء النفس والجسد
وامنعيني منذ اليوم
من القيام بما قد لا يُرضي اللّه
أطلب منكِ ذلك بحقّ الحبل بلا دنس وبحقّ عذريّتكِ الثابتة. آمين (القديس غاسباره بيرتوني)
المرحلة الخامسة
سمعان القيرونيّ يُساعد يسوع على حمل صليبه
اليّد الصديقة التّي ترفعنا
"وسَخَّروا لحمل صليبه أحد المارّة سمعان القيروانيّ أبا الإسكندر وروفس، وكان آتيًا من الريف" (مرقس 15، 21)
كان سمعان القيروانيّ يمرّ صدفةً دون أن يعرف أنّ هذا اللقاء سيُبدّل حياته. كان عائدًا من الريف وهو رجلٌ صلبٌ قوّيّ البنيّة لذلك أُجبر على حمل صليب يسوع الذّي أطاع حتّى الموت المخزي (مراجعة الرسالة الى أهل فيليبي 2، 8)
وتحوّل هذا اللقاء من صدفةٍ الى مسيرةٍ حاسمة وحيويّة مع يسوع، فحمل سمعان صليبه وزهِد في نفسه (مراجعة متى 16، 24 – 25). ذكر مرقس أنّ لسمعان ابنَين مسيحيَين معروفَين من الجماعة في روما وهما إسكندر وروفس. وهو أبٌ طَبَعَ ودون أدنى شكّ قوّة الصليب في قلب ولدَيه لأنّ الحياة وإن تمسكنا بها تتعفن وتجّف إنمّا تُزهر وتأتي لنا وللجماعة بثمار إن قدّمناها.
هكذا نُشفى من أنانيتنا التّي دائمًا ما تكون في حالة تأهُّب فالعلاقة بالآخرين تُجدّدنا وتخلق فينا أخوّةً سامية تأمليّة تُعجَب بعظمة الآخر المقدسة وتَعرف كيف تكتشف اللّه في كلّ كائنٍ بشري وتتحمّل مصاعب الحياة مُتمسّكةً بحبّ اللّه.
نبحثُ عن سعادة الآخرين فقط إن فتحنا قلوبنا للمحبة الإلهيّة وذلك من خلال بادرات تطوعيّة مختلفة: ليلةٌ في مستشفى، قرضٌ دون فائدة، التخفيف من آلام أحد أفراد العائلة، المجانيّة الصادقة، الإلتزام المستنير تحقيقًا للخير العام، تقاسُم الخبز والعمل من خلال التغلّب على الغيرة والحسد.
فيسوع نفسه يُذكّرنا بذلك: "كلّما صنعتم شيئًا من ذلك لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه" (متى 25، 40)
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
في صديقكَ القيروانيّ، ينبض قلب كنيستكَ،
وهي سقف حبّ يجمع العطشى إليكَ.
إنّ المساعدة الأخويّة هي المفتاح لكيّ نجتاز معًا باب الحياة
فلا تسمح بأن تمنعنا أنانيتنا من اجتياز العتبة
بل ساعدنا على صبّ زيت العزاء على جروح الآخرين
لكي نكون مرافقين مخلصين نجتاز معهم الطريق فلا نهرب ولا نملّ أبدًا من اختيار الأخوّة. آمين.
المرحلة السادسة
فيرونيكا تمسح وجه يسوع
الحنان النسائي
"لك قال قلبي: «قلت: اطلبوا وجهي». وجهك يا رب أطلب. لا تحجب وجهك عني. لا تخيّب بسخط عبدك. قد كُنتَ عوني فلا ترفضني ولا تتركني يا إله خلاصي." (المزامير 27، 8 – 9)
يجرّ يسوع نفسه لاهثًا إلاّ أنّ نور وجهه لم يتغيّر فما من إهانةٍ قادرةٍ على الحطّ من جماله التّي لم تتمكن الصفعات من إطفائه.يبدو هذا الوجه كالحرش الملتهب كلّما تعرّض للإساءة، انبعث منه نور خلاص. يذرف المعلم دموعًا صامتة وهو يحمل وِزرَ الهجر إلاّ أنّه يتقدم ولا يتوقف ولا ينظر الى الوراء.
فهو يواجه القمع مذهولاً بالقساوة مع علمه أنّ موته لن يذهب هدرًا.
تتقدم منه امرأةٌ دون تردد فيتوقف. إنّها فيرونيكا، صورةٌ حقيقيّة عن الحنان النسائي!
يُجسّد الرّب هنا حاجتنا الى المحبة المجانيّة والى الشعور بالحبّ والحماية من خلال لفتات حريصة ومتيقّظة.
فيغمر دمّ المسيح الثمين لمسات هذه المخلوقة لتُبدّد ما تكبدّه من تدنيس في ساعات التعذيب تلك. تمكنت فيرونيكا من ملامسة وجه يسوع العذب والطاهر لا للتخفيف عنه وحسب إنمّا لمشاركته آلامه أيضًا فوجدت في يسوع كلّ قريبٍ يحتاج الى التعزيّة من خلال لمسة حنان. فلنفكّر بألم المحرومين اليوم من المساعدة ودفء العطف والذّين يموتون وحيدين.
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
ما أقسى المسافة التّي نشعر بها نحن الذّين كنّا نخالكَ
قربنا في أيام الشدّة!
أغمرنا بقطعة القماش هذه
المُشبّعة بدمائكَ الطاهرة
التّي أهرقتها على طريق التخلي
فتألمتَ ظلمًا
فمن دونك، لا نقوى ولا نستطيع
تعزية الآخرين. آمين.
المرحلة السابعة
يسوع يقع للمرّة الثانيّة
معاناة السجن والتعذيب
"أحاطوا بي واكتنفوني... أحاطوا بي مثل النحل. إنطفأوا كنار الشوك. باسم الرب ابيدهم! دحرتني دحورا لأسقط. أمّا الرب فعضدني. تأديبًا أدّبني الربّ والى الموت لم يُسلمني" (المزمور 117، 11. 12 – 13. 18).
تتحقق في يسوع حقًا النبوءات القديمة عن خادمٍ متواضعٍ ومطيعٍ يحمل على كتفَيه تاريخ آلامنا كلّه. وقع يسوع أرضًا تحت وِزر التعب والقمع وهم يدفعونه الى الأمام قصرًا ومن حوله العنف سائد فخارت قواه. وازدادت وحدته وازداد الظلم. فتقطع جسده وضعُفت عظامه.
ونتعرّف من خلال يسوع على تجربة المعتقلين في السجون مع كلّ مفارقاتها غير الإنسانيّة. فأحاطوا به واكتنفوه "ودفعوه بالقوّة أرضًا". لا تزال السجون اليوم في حال عزلة ولا تزال منسيّة يتنصّل منها المجتمع المدني ناهيك عن سخافات البيروقراطية والبطء القضائي. ويُضيف الإكتظاظ في السجون الى معاناة المساجين معاناةً إضافيّة: فيزداد الألم والقمع الجائر الذي يُضني الجسد والعظام. ولا يقوى البعض – وعددهم لا يُستهان به - على تخطي هذه المرحلة وحتّى لو تمكّن أحد إخوتنا من القيام بذلك، نعتبره "سجينًا سابقًا" فنحرمه فرصة الإندماج مجددًا في المجتمع والعمل.
إلاّ أنّ ممارسة التعذيب هي الأكثر خطورة وهي لا تزال منتشرة وللأسف في أجزاء مختلفة من العالم وبأشكالٍ مختلفة. وهذه كانت حال يسوع الذّي تعرّض هو أيضًا لضرب مجموعة من الجنود وإذلالهم فعذّبوه بأكليل الشوك وجلدوه دون رحمة.
لا يزال كلام يسوع صالحًا حتّى اليوم "كنتُ سجينًا فزرتموني" (متى 25، 36). فيسوع موجود في كلّ سجن والى جانب كلّ مُعذب هو الذي تألّم وسُجن وذاق العذاب. يُساعدنا يسوع خلال التجارب الصعبة لكي لا نستسلم للخوف. لا نقف على رجلَينا من جديد سوى معًا برفقة مساعدين صالحين وبمساعدة يد المتطوعين الأخويّة ومؤازرة المجتمع المدني الذي غالبًا ما يجعل من المظالم التي تحصل بين جدران السجن قضيّته.
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
ما من كلماتٍ تصف شعوري
وأنتَ تسقط أرضًا من أجلي.
خطاياي وهفواتي ومَواطن ضعفي تجعلني غير أهلٍ لذلك.
وها أنتَ تُجيبُ بحبٍّ كبير!
فبتهميشكَ من المجتمع وقتلكَ من غير وجه حقّ
بارَكتنا جميعًا للأبد.
طوبى لنا إذ نعيشُ هنا على الأرض معًا بعد أن خَلَّصْتنا من الإدانة.
ساعدنا على الإيفاء بمسؤولياتنا
وأعطنا أن نعيش بتواضعٍ بعيدًا عن أي إدّعاء بالقدرة الكليّة فنولد من جديد لنعيش حياة جديدة بصفتنا مخلوقات سماويّة. آمين.
المرحلة الثامنة
يسوع يلتقي نساء أورشليم
مشاركة لا رثاء
«يا بنات أورشليم، لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكنّ وعلى أولادكنّ!" (لوقا 23، 28)
تظهر الشخصيّات النسائيّة كمشاعل مضيئة على طريق الألم فهنّ نساءَ إخلاص وشجاعة لم يُرعبهنّ الحرّاس ولم تُروّعهنّ جراح المعلم الصالّح. فكنّ جاهزات لملاقاته ومواساته. وها هو أمامهنّ. يتعرّض لضرب البعض وهو يسقط أرضًا، منهكًا. فيمددنَه المشاعر الحارّة التي لا يستطيع القلب كبّحها إزاء هذا المشهد. نظرنَ إليه من بعيد ثم بدأنَ بالاقتراب كما كان ليفعل كلّ صديقٍ أو أخٍ أوأختٍ عندما يشعر بصعوبة ما يختبره الحبيب.
تأثّر يسوع بدموعهنّ المريرة إلاّ أنّه طلب منهنّ ربط الجأش حتّى وإن رأينه يتعرّض لكلّ هذا الظلم فلا يكنّ نساءً تبكي بل نساء مؤمنات! فهو يطلب منهنّ مشاركته آلامه لا رثاءً عقيمًا ودامعًا. لا يطلب منهنّ الشكوى بل الرغبة بالولادة من جديد والنظر الى الأمام وسلوك الدرب بإيمان ورجاء نحو فجر النور الذّي سيشعْ قوّيًّا على كلّ السائرين نحو اللّه. فلنُرثِ أنفسنا إن كنّا لا نزال غير مؤمنين بيسوع الذي أعلن عن ملكوت الخلاص ولنبكِ على خطايانا التي لم نعترف بها بعد.
ولنبكِ أيضًا على هؤلاء الرجال الذّي يصْبون العنف الكامن داخلهم على النساء ولنبكِ على النساء اللواتي أصبحنَ أسرى الخوف والاستغلال. إلاّ أنّ قرع الصدور والشفقة لا يكفيان فيطلب منّا يسوع أكثر بكثير فيجب طمْأنة النساء ومحبتهنّ كهديّة مقدسة للبشريّة جمعاء فيكبر أولادنا في الكرامة والرجاء.
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
كُفّ اليد التي تضرب المرأة!
وأبعِد القلوب عن هاوية اليأس
عندما تُصبح أسيرة العنف.
قُم بزيارتها عندما تشعر بالوحدة
وافتح قلوبنا لنشاركها آلامها
بإخلاص وأمانة
في بادرةٍ تتخطى التعاطف الطبيعي فنكون أداة تحريرٍ حقيقيّة. آمين.
المرحلة التاسعة
يسوع يقع للمرّة الثالثة
التغلب على الحنين السيّء
"مَن سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟ ولكننا في هذه جميعها يعظُم انتصارنا بالذي أحبّنا." (الرسالة الى أهل رومة 8، 35. 37)
يُعدّد القديس بولس هذه التجارب إلاّ أنّه يعرف أنّ المسيح ذاق طعمها قبله فوقع مرّتَين وثلاث على طريق الجلجلة.
أنهكته المحنة والإضطهاد والسيف وسحقته خشبة الصليب فأضنته! فبدا وكأنّه يقول كما نقول نحن في الكثير من المحطات المظلمة: لا يمكنني تحمّل المزيد!
إنّها صرخة المضطهدين والمنازعين والمرضى في أيامهم الأخيرة والمقموعين.
إلاّ أنّ قوّة يسوع ظاهرة أيضًا: "فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه" (مراثي ارميا 3، 32). فيؤكّد لنا أنّه موجود دائمًا لتعزيتنا في الضيق فيُعطينا ما هو "أبعد" من نظرة رجاء أسوةً بالآب السماوي الذّي يُقلّم بحكمة الأغصان التي تحمل ثمرًا (مراجعة يوحنا 15، 8) فلا يقتلع أبدًا بل يسعى الى أن تُزهر من جديد. وهكذا هي الأمّ التي تأتي ساعتها : تئنّ منهوكةً وتتألم خلال الولادة إلاّ أنّها تعرف أنّ هذا الألم هو ألم الحياة الجديدة وربيع الزهور.
فليساعدنا مشهد يسوع المتألم إنمّا القادر على النهوض من جديد على التغلب على الإنغلاق الذي يطبعه الخوف من الغد في قلوبنا خاصةً في فترات الأزمات. فلنتخطَّ الحنين غير الإيجابي الى الماضي والراحة في الجمود والتمسّك بأنّه "لا طالما فعلنا ذلك!" إنّ يسوع الذي يترنّح ويقع قبل أنّ يقوم من جديد لعلامة رجاء تولَد خلال فترة الشدائد لا بعدها ولا دونها مصحوبةً بالصلاة المكثّفة! ونصرُنا كبيرٌ بفضل محبته!
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع
نبتهل إليك ان ترفع البائسين عن غبار الأرض
وتُبعد الفقراء عن القذارة واجعلهم يجلسون الى جانب قادة الشعب
وسكّنهم عرش المجد
إكسر سيف الأقوياء وقوِّ الضعفاء
لأنّك وحدك قادرٌ على إغنائنا بفقركَ! (مراجعة الرسالة الثانيّة الى طيموتاوس 2، 4 – 8 والرسالة الثانيّة الى أهل قورنتس 8، 9) آمين.
المرحلة العاشرة
يسوع يُجرَّد من ثيابه
الوحدة والكرامة
"ثم إنّ العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل عسكري قسمٌ. وأخذوا القميص أيضًا. وكان القميص بغير خياطة، منسوجا كله من فوق. فقال بعضهم لبعض: «لا نشقّه، بل نقترع عليه لمَن يكون». ليتمّ الكتاب القائل: «اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة». هكذا فعَلَ العسكر." (يوحنا 19، 23 – 24)
لم يتركوا قطعة ثيابٍ واحدة على جسد يسوع. أخذوا كلّ ثيابه فلم يتركوا عليه لا قميصًا ولا لباسًا. أخذوا ثيابه لإذلاله تمامًا. بقي عريانًا مُضرَجًا بدمائه التي كانت تنساب غزيرةً من جروحه الكبيرة.
بقي القميص كما هو، رمزًا لوحدة الكنيسة وهي وحدةٌ يجب البحث عنها على طريق الصبر، في إطارٍ من السلام الحَرفي الذي يُبنى كلّ يوم ضمن نسيجٍ يُجدّده أبناء الأخوّة الذهبيّين في المصالحة والغفران المتبادل. فلنرَ من خلال يسوع البريء والعريان والمُعذّب كرامة جميع الأبرياء المنتهَكَة خاصةً الصغار منهم. سمح اللّه بأن يُعلَّق جسده العريان على الصليب وذلك ليخلّصنا من كلّ انتهاكٍ مستورٍ دون وجه حقّ ويُبرهن أنّه دائمًا الى جانب كلّ ضحيّة دون أيّ قَيد أو شرط.
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
نودّ أن نعود أبرياء كالأطفال
لنتمكن من دخول ملكوت السماوات
فنتطهّر من أوساخنا وأصنامنا.
إقتلِع من صدورنا قلب التفرقة الحجري
الذي يفقد كنيستكَ مصداقيّتها.
أعطنا قلبًا جديدًا وروحًا جديدة
فنعيش حسب تعاليمكَ ونحترم ونُطبّق القوانين. آمين.
المرحلة الحادية عشرة
صلبُ يسوع
على أقدام سرير المرضى
"ثمّ صلبوه واقتسموا ثيابه، مقترعين عليها ليعرفوا ما يأخذ كلّ منهم. وكانت الساعة التاسعة حين صلبوه. وكُتب في عنوان علّة الحكم عليه: "ملك اليهود". وصلبوا معه لصّين، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فتمّ الكتاب القائل: «وأُحصِي مع الأثمة». (مرقس 15، 24 – 28)
وصلبوه! فعوقِبَ كالخوَِنة وسيّئي السّمعة والعبيد المتمرّدين. هكذا دِينَ ربّنا يسوع المسيح: بمسامير قاسيّة وآلامٍ مبرّحة فشاهد أمّه تتعذب وعُرف عار الإتحاد بلصَّين صلبًا والإقتراع على ثيابه كغنيمة بين الجنود وسخريّة المارّة القاسية. " خلّص غيره، ولا يقدر أن يُخلّص نفسه!...فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به!" (متى 27، 42)
وصلبوه! لم ينزل يسوع ولم يتخلَّ عن الصليب. بقيَ متمسّكًا به مُطيعًا مشيئة الآب حتّى النهاية. فهو يحبّ ويسامح.
واليوم أيضًا، يجد العديد من أخوتنا وأخواتنا أنفسهم مُسمّرين على فراش الألم في المستشفيات وبيوت الراحة. إنّه وقتُ المحنة ومرارة أيام الوحدة واليأس. "إلهي، إلهي لماذا تركتني؟" (متى 27، 46) فلتكن أيدينا أيدٍ تُقرّب وتُعزّي وترافق المرضى فترفعهم عن فراش الألم عِوَض أن تنخر المسامير.
يدخل المرض دون استئذان ويأتي دائمًا على حين غفلة مصحوبًا بالاضطرابات في بعض الأحيان فيحدّ الآفاق ويمتحن الرجاء بطعمه المرير لكن إذا ما وجدنا بالقرب منا مَن يسمعنا ويجلس قربنا على حافة السرير... يُصبح المرض في هذه الحالة فقط مدرسة كبيرة تُدرّسنا الحكمة وملاقاة إلهنا الصبور. عندما يُشاركنا أحدهم عاهاتنا بمحبة، ينفتح ليل الظلمات حتّى على نور الفصح، نور المسيح الذّي صُلب وقام من بين الأموات. فما قد نعتبره نحن كبشر إدانةً قد يتحول تضحية فداء لخير جماعاتنا وأسَرِنا على مثال القديسين.
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع،
لا تبقَ بعيدًا عنّي
إجلس على فراش ألمي ورافقني.
لا تتركني وحدي، مُدّ يدكَ وارفعني!
أؤمن أنّكَ محبة
وأؤمن أنّ مشيئتكَ هي التعبير الشافي عن محبتكَ لأنني أسلّم نفسي الى محبتكَ. آمين.
المرحلة الثانية عشرة
يسوع يموت على الصليب
أنين الكلمات السبع
"وبعد ذلك، كان يسوع يعلم أنّ كلّ شيءٍ قد انتهى، فلكي يتمّ الكتاب قال: "أنا عطشان". وكان هناك إناءٌ مملوءٌ خلاً. فوضعوا إسفنجةً مبتلّةً بالخلّ على ساق زوفى وأدنَوها من فمه. فلمّا تناول يسوع الخل قال: "تمّ كلّ شيء" ثمّ حنى رأسه وأسلم الروح" (يوحنا 19، 28 – 30)
إنّ كلمات يسوع السبع على الصليب تحفة رجاء. فيجتازُ يسوع ببطء وبخطواتٍ هي أيضًا خطواتنا كلّ ظلام الليل ليُسلم نفسه بثقة بين يديّ الآب. إنّه أنين المنازعين وصرخة اليائسين وطلبة الضائعين. إنّه يسوع!
"إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (متى 27، 46). إنّها صرخة يعقوب وصرخة كلّ إنسانٍ حزين. ويسكتُ الله. يسكتُ لأنّ إجابته واضحة، على الصليب: فيسوع هو إجابة اللّه والكلمة الأزليّة المُتجسدة بمحبة.
"أُذكرني..." (لوقا 23، 42). تخترق طلبة المجرم الأخويّة ورفيق الالم قلب يسوع فسمع فيها تردّد صدى آلامه هو. فقال له: "ستكون اليوم معي في الفردوس" (لوقا 23، 42 – 43). دائمًا ما يُنقذنا ألم الآخرين لأنّه يدفعنا الى تخطّي ذواتنا.
"أيّتها المرأة، هذا ابنكِ!..." (يوحنا 19، 26). وقفت أمّه مريم مع يوحنا عند أقدام الصليب متحدّيةً الخوف فأملاها حنانًا ورجاءً وزالت وحدته. وهذه حالنا أيضًا إن وجدنا على حافة فراش ألمْنا شخصًا يحبّنا! بإخلاص حتّى النهاية.
"أنا عطشان" (يوحنا 19، 28) عطش يسوع كعطش الطفل الذي يطلب من أمّه أن ترويه وكعطش المريض الملتهب بنار الحمى وكعطش كلّ التوّاقين الى الحياة والحريّة والعدالة وكعطش أكبر المتعطشين: اللّه هو المُتعطش أكثر منّا جميعًا ودون حدود لتحقيق خلاصنا.
"تمّ كلّ شيء" (يوحنا 19، 30). كلّ شيء: كلّ كلمة، كلّ حركة، كلّ نبوءة وكلّ لحظة من حياة يسوع. فوُضعت اللمسات الأخيرة على اللوحة وأشرقت ألوان المحبة . فلم يُهدر شيئًا ولم يُرمَ شيئًا وأصبح كلّ شيءٍ محبة لأستهلكها أنا وتستهلكها أنت! فأصبح للموت أيضًا معنى!
"يا أبتِ، إغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون" (لوقا 23، 34). يتخطّى يسوع بشكلٍ بطولي الخوف والموت إذ يُصبح كلّ شيء حياة عندما نعيش المحبة المجانيّة فالمغفرة تُجدّدنا وتشفينا وتحوّلنا وتعزّينا! فتخلق شعبًا جديدًا وتوقف الحروب. "يا أبتِ، في يديكَ، أجعل روحي" (لوقا 23، 46). إختفى اليأس من المجهول فنضع ثقتنا كاملةً بين يديّ الآب ونستسلم لقلبه لأنّ "كلّ جزءٍ في الله يتكوّن من جديد في الوحدة!"
صلاة
يا ربّ، أنت مَن حرّرتنا من خلال آلام المسيح ربّنا
من الموت الذّي ورثناه جرّاء الخطيئة القديمة
التّي نُقلت الى كلّ كائنٍ بشري
جدّدنا على صورة المسيح ابنك
وكما حملنا نحن، في ولادتنا
صورة الانسان البشري
إطبع فينا صورة الانسان السماوي
بواسطة روحك القدوس والمسيح ربنا. آمين.
المرحلة الثالثة عشرة
يسوع ينزل عن الصليب
المحبة أقوى من الموت
"وجاء عند المساء رجلٌ غنيٌ من الرّامة اسمه يوسف وكان هو أيضًا قد تتلمذ ليسوع. فذهب الى بيلاطس وطلب جثمان يسوع. فأمر بيلاطس بأنّ يُسلّم إليه." (متى 27، 57 – 58)
سُلّم يسوع الى والدته قبل أن يُنقل الى القبر. إنّها أيقونة القلب المتألم التّي تؤكّد لنا أنّ الموت لا يمنع الأمّ من تقبيل ابنها القبلة الأخيرة. تسجد مريم أمام جسد يسوع وتحتضنه حتّى العناق. يُطلقُ على هذه الأيقونة اسم "بييتا". إنّها أيقونة مؤثّرة تُظهر أنّ الموت لا يكسر المحبة لأنّ المحبة أقوى من الموت والمحبة باقية! أتى الليل بعد انتهاء المعركة ولم تنكسر المحبة ومَن هو جاهزٌ للتضحية بحياته من أجل المسيح، يجد المحبة تتجلّى أبعد من الموت.
تتمازج الدموع بالدّم خلال هذا التسليم المأساوي في صورةٍ تُشبه الإضطراب الذّي تعرفه حياة عائلاتنا التّي تتكبَد في بعض الأحيان خسائر غير متوقّعة وموجعة فتخلق فراغًا لا يمكن سدّه خاصةً عند فقدان أحد أطفال الأسرة.
تعني "بييتا" التقرّب من الأخوة الحزانى والثكالى. إنّ الإهتمام بالمتألم في جسده والمغطى بالقروح أو بالمتألم في روحه المكتئبة أو نفسه اليائسة لبادرة خيرٍ كبيرة. إنّ أسمى ما تركه لنا يسوع ومريم من تعاليم هو المحبة حتّى النهاية: إنها مهمّة التعزية الأخويّة اليوميّة التّي أوكلت إلينا خلال هذا العناق المُخلص بين يسوع الميت وأمّه المتألمة.
صلاة
أيتها العذراء المتألمة،
أنتِ التي تُظهرين لنا في مزاراتنا وجهكِ المُشعّ
في حين تُقدِمين الى الآب وعيناكِ نحو السماء
ويداكِ مفتوحتَين
إبنكِ يسوع ضحيّة فداء،
إكشفي لنا حنان العناق الأخير
وامنحينا تعزيتك الأموميّة
كي لا يقضي الألم اليومي أبدًا
على رجائنا بالحياة بعد الموت. آمين.
المرحلة الرابعة عشرة
يسوع يوضع في القبر
البستان الجديد
"وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان وفي البستان قبرٌ جديد لم يكن قد وُضِع فيه أحد. وكان القبر قريبًا فوضعوا فيه يسوع." (يوحنا 19، 41 – 42)
يُذكّرنا هذا البستان حيثُ وُضِع يسوع ببستانٍ آخر، بستان جنة عدن الذي فَقَد جماله وعمّ فيه الدمار فتحوّل من مكان ينبُضُ بالحياة إلى رمزٍ للموت بسبب عدم الطاعة. علينا الآن أن نُقلّم الأغصان الضّارّة التّي تمنعنا من تنفّس مشيئة الله كالتعلّق بالمال والأنانيّة وهدر الحياة فنزرعها في خشب الصليب. فهذا هو البستان الجديد حيثُ يُزرَع الصليب في الأرض!
ويستطيع يسوع من عليائه أن يُعيد الحياة لكلّ شيء. فما أن يعود من أهوال الجحيم حيثُ احتجز الشيطان عددًا كبيرًا من النفوس، يبدأ بتجديد كلّ شيء. يُمثّل هذا التابوت نهاية الرجل القديم. فحالنا كحال يسوع إذ رفض اللّه أن يُعاني أولاده من الموت المحتّم. فسقطت مع موت يسوع عروش الشرّ كلّها المبنيّة على الطمع وقساوة القلب.
يُجرّدنا الموت من قِوانا ويُفهمنا أنّ لحياتنا على هذه الأرض نهاية إلاّ أّننا لا نُدرِك سوى أمام جسد يسوع المُلقى في التابوت حقيقة ذواتنا أي كوننا كائنات بشريّة تحتاج الى خالقها كي لا تموت. يسمح لنا الصمت الذي يلفّ هذا البستان من سماع حفيف نسيمٍ خافتٍ يقول: "أنا هو الكائن وانا معكم" (مراجعة سفر الخروج 3، 14). إنشقّ حجاب الهيكل وها نحن أخيرًا نرى وجه إلهنا ونعرف اسمه فهو رحمةٌ وإخلاص فلا نرتبك بعد الآن حتّى إزاء الموت لأن إبن الإنسان أصبح حرًّا بين الأموات (مراجعة المزامير 87، 6)
صلاة
إحمِني يا ربّ فقد جعلتُ منكَ ملجإي
انتَ قسمتي وأنتَ كأسي:
وحياتي بين يدَيك.
أُبقيكَ يا ربّ نُصب عينَيّ دون كلل
فأنت عن يميني ولا شيء يُزعزعني
وقلبي يبتهج فرحًا وروحي في عيد
وجسدي يرتاح بثقة:
فلا تتخلَّ عني في ساعة مماتي.
لا تسمح بأن يعرف صديقكَ الفساد.
علّمني طريق الحياة
فأسيرها أمام وجهك وقلبي يفيض فرحًا!
وأنا عن يمينك، اتنعّم بمسرّات الخلود! آمين
مراجعة (المزمور 15)
المونسنيور جانكارلو ماريا بريغانتيني
موقع Aleteia