بين مشيئة الله وإرادة الإنسان «أضواء
لقد اعتاد الناس أن يقولوا إنّ لله مشيئة علينا، وإنّه يريد أن نكتشفها لنُحقّقها. في ذلك شيء من الصواب وشيء من الخطأ: إنّ ذلك القول صائب لأنّ لديه تعالى رغبة وقصد محبّة على كلّ واحد منّا، شأنه شأن الأب، بل أكثر من الأب تجاه أبنائه: "اختارنا في المسيح قبل إنشاء العالم، لنكون في نظره قدّيسين بلا عيب في المحبّة، وقدّر لنا منذ القدم أن يتبنّانا بيسوع المسيح، على ما ارتضته مشيئته..." (أف 3/1-14).
كما أنّ ذلك القول خطأ لأنّ الله لا يفرض عليك شيئاً، حتّى ولا رغبته فيه وقصد محبّته عليك. إنّه لا يفرضهما إطلاقاً، بل يعرضهما فقط عليك، ما يحثّ حرّيّتَك على التجاوب معه، ويدفعها إلى الإبداع والابتكار معه. يرنّم المُرنّم: "أبدِعْ مُستقبلَك مع إلهك الذي يمنحك إيّاه": الأمر هو مستقبلك، وأنت تُبدعه؛ وفي الوقت عينه أنت تُدعَه مع الله، الإله الذي يهبك إيّاه لأنّه خالق الأكوان والبشر، وهو سيّد تاريخ البشر ومستقبلك – وإن كنت أنت صانعَه-، ويمنحك القدرة على إبداع مستقبلك معه، في تضافر بين مشيئته وإرادتك، حتّى إنّه ليصعب عليك أن تُحدّد بالتمام ما يعود إليه وما يعود إليك، ذلك بأنّ هناك تناغماً وتضافراً بين حرّيّته وحرّيّتك. ويُمكنك القول بأنّ ذلك ينبع منك مائة في المائة، ومنه تعالى مائة في المائة، وقد قال بولس في هذا الصدد: "اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة، فإنّ الله هو الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل في سبيل رضاه. فافعلوا كلّ ما تفعلون..." (فل 12/2). وفسّر القدّيس برنارْدُس ذلك الكلام بقوله: "لا تعمل النعمة جزءاً والإرادة الحرّة جزءاً آخر، ولكنّهما يعملان العمل كلّه بفعل واحد لا يتجزّأ: هو، بالطبع، يعمل كلّيّةً، والنفسُ أيضاً كلّيّةً؛ ولكنّها، إذ إنّها تعمل كلّيّةً فيه، فهو يعمل كلّيّةً بها". على مَن يبحث عن مشيئة الله على حياته، أن يذكر دائماً هذا المبدأ الروحيّ
سرّ لقاء الله، أي الله يأتي إليك: ردّدَ آباء الكنيسة: "إلهنا إله يأتي". ولقد ردّدتْ، من بعدهم، إليصابات الثالوث، الكرمليّة المتصوّفة، في مستهلّ القرن العشرين: "عندما يصل الله، فهو حاضر من قبل". إنّ الله يبادر فيأتي إليك كما أتى إلى تلميذي عمّاوس ليلة قيامته (لو13/24-35): التقاهما في خِضمّ خيبة أملهما، كما التقى التلاميذَ الاثني عشر في فرحهم عندما عادوا من الرسالة. وهو لم يأت في الماضي عندما تجسّد فحسب، ولن يأتي في آخر الزمان فحسب، بل إنّه يأتي إليك أيضاً، وهو يلتقيك في حاضرك، حيثما أنت، وكيفما أنت، وعلى أيّ حال أنت، فتكتشف أنّكما رفيقا طريق واحد، وتختبر أنّكما صديقان يتحاوران ويتبادلان أطراف الحديث، فتتعرّفان بعضكما إلى بعض، ويكشف الواحد للآخر عمّا في قلبه: أنت ما تعيشه وتخطّط له، وهو ما يفكّر فيه بشأنك؛ أنت تفتح له قلبك بجميع رغباتك ومشاريعك، وهو بقصد محبّته عليك. ومِن ثَمّ، تتنعّمان بعضكما ببعض، في أُلفة وعشرة وحميميّة.
لماذا يبادر الله في حياتك؟: لأنّه "هو الذي أحبّنا" أوّلاً (1 يو 10/4). فحبُّه إيّاك سبّاق دائماً، يسبقك حيثما تذهب، ما يُطمئنك على أنّك لست وحدك في مُعترك الحياة، بل أنت برفقته. ثُمّ لأنّه يعرفك معرفة أفضل من معرفتك ذاتك، ويعلم أين يكمن خيرك الأعظم ومصلحتك الحقيقيّة، ذلك بأنّك قد تظنّ أنّ ما يصلح لك هو هذا أو ذاك، في حين أنّه أعلم منك في هذا الشأن؛ وعليه، فإنّ مشيئته تسبق إرادتك، كما أنّ محبّته تسبق محبّتك. ثمّة إذاً تضافر وتناغم بينك وبينه؛ وفي داخل ذلك، تندرج أولويّته المطلقة، لِما فيها من خير حقيقيّ يعود إليك، وقد لا تتيقّظ ولا تنتبه إليه، وأمّا هو فلا يفرضه عليك، بل يعرضه فقط عليك، وذلك برِقّة محبّته ولُطف مشيئته.
سرّ اتّحادك بالله، أي الله في باطنك: هذه هي مشيئة الله التي طالما عبّر عنها البشر، لاسيّما الروحانيّون منهم، تلك التي تتكوّن في داخل الحوار الحميم الذي يدور بينك وبينه، وفي أثناء الغذاء الذي تتناولانه، وقد سمّاه إغناطيوس " المعرفة الباطنيّة" (رر 104)، أي معرفتك إيّاه ومعرفته إيّاك من الداخل وفي العمق: أنت تتعرّف إلى شخصه ومشيئته؛ وهو يرى عُمق رغبتك وصميم مشاريعك. وإذّاك، تكتبان معاً صفحة جميلة تُعبّر عن ملء حياتك وعن حميميّة علاقتكما، وترسم مشيئته السبّاقة وإرادتك اللاحقة، بحيث إنّ مشيئته المقدّسة تصبح تدريجاً إرادتَك الحرّة، وإرادتُك الحرّة مشيئتَه المقدّسة، ويتحقّق ذلك التبادل على مرّ الأيّام وطوال السنين. وقد تعتري طريقَك رغباتٌ مُزيّفة، كما وقد تنشأ في قلبك مشاريعُ سطحيّة أو ناقصة – يعتبرها إغناطيوس "علائق غيرَ مُنظَّمة"-، يخال إليك أنّها تُعبّر عن عمق كيانك، في حين أنّها بالفعل ليست أفضل ما فيك وما لديك؛ ولذا فإنّ الروح القدس يكشف لك عن باطن الأمور وأفضلها لك، فيحرّرك ليصل بك إلى رغبات ومشاريع "مُنظَّمة"، في سبيل أن يتمّ التناغم والتضافر بين مشيئته تعالى وإرادتك المتحرّرة الحرّة.
مشيئة الله والروحانيّة الإغناطيّة: إنّ التبادل بينك وبين الله، واتّحادكما بعضكما ببعض، والتضافر والتناغم بين مشيئته وإرادتك، قد عبّر عنها إغناطيوس في عبارته الشهيرة: "عندما يجري البحث عن مشيئة الله، من الأوفق، بل من الأفضل بكثير، أن يُشرك الخالق والسيّد النفسَ الأمينة في ذاته، مُعانقاً إيّاها في حبّها وتسبيحها إيّاه" (رر 15). إنّ ذلك الاتّحاد يُعرّفك "معرفةً باطنيّة" بسرّ علاقة اتّحاد قلبك بقلبه، وسرّ ملء الألفة والعشرة بين مشيئته وإرادتك، فتعلمان، وحدكما، سرَّكما الحميم
إلاّ أنّ ذلك الاتّحاد لا يعني إطلاقاً ذوبانك فيه، أو تلاشي إرادتك في مشيئته، أو امتصاص مشيئتِه إرادتَك الحرّة. كلاّ! تذكّر أن يسوع القائم، بعدما كشف عن ذاته لتلميذي عمّاوس، " غاب عنهما"، وذلك ليتيح لإرادتهما الحرّة أن تتحقّق في خضمّ الحياة، مثل البحر الذي ينسحب فيسمح للأرض بأن تظهر. ولذا فقد قالا: "ألم يكن قلبنا متّقداً عندما كان يحدّثنا في الطريق؟". فقد أدركا عمق ما اختبراه، لا عندما كان حاضراً، بل عندما اختفى، وحينذاك حكّما عقلهما ومشاعرهما وإرادتهما الحرّة، وأيقنا ما عاشاه. وأنت أيضاً، عندما تبحث بصدق عن مشيئته تعالى عليك – أثناء رياضة روحيّة، بإرشاد مُرافق-، تختبر شيئاً عميقاً واقتراباً منه حميماً؛ وعندما تعود إلى حياتك العاديّة، تدرك أنّ قلبك كان مضطرماً حبًّا له.
وتتحقّق تلك الدعوة إلى الحبّ والخدمة في الكنيسة أُمّك. ربّما قرأتَ في ذكريات القدّيسة تريزا الطفل يسوع هتافها، بعد أن بحثت مدّة طويلة بحثاً مُضنياً اكتشفتْ من خلاله مشيئةَ الله على حياتها: "تملّكَني فرحٌ غامر، فهتفتُ: يا يسوع، يا حُبّي...، لقد وجدتُ أخيراً دعوتي. دعوتي هي الحبّ. أجل، لقد وجدتُ مكاني في الكنيسة، وهذا المكان، أنت، يا إلهي، منحتَني إيّاه...، ففي قلب الكنيسة أمّي، سأكون الحبّ... وهكذا سأكون كلّ شيء... وهكذا سيتحقّق حلمي!!!".
وأنت أيضاً مدعوٌّ مثلها إلى أن تبحث عن دعوتك الشخصيّة الفريدة، وأن تكتشفها، وهي دعوة إلى الحبّ والخدمة، فتُحقّقها في الكنيسة أمّنا.
هل كنت تتوقّع، في بداية مسيرتنا هذه، أنّ بحثك عن مشيئة الله واكتشافك إيّاها سيؤول بك إلى تجاوز ذاتك إلى هذا الحدّ من الانفتاح على رغباتك الدفينة، ومن تجاوز ذاتك عليه تعالى، وعلى حبّ الآخرين وخدمتهم؟ يا لَعظمة سرّ مشيئة الله عليك وإرادتك البشريّة الحرّة التي تتجاوب معه!
الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ