بالروح، بالدم، نفديك يا يسوع «أضواء

بالروح، بالدم، نفديك يا يسوع. لا شكّ في أنّ صيغة هذا الشعار ليست غريبة علينا، إذ نسمعها على الدوام في بلداننا تعبيرًا عن الإحتجاجات أو الإستنكارات. الشعوب تسير هائجة وغاضبة، وتقول إنّها مستعدّة لزهق أرواحها وسفك دمائها في سبيل بلدِ أو قائدٍ أو قضيّة. وتبيّن لنا الخبرة أنّ قلّةً قليلة من هؤلاء المُنادين بهذا الشعار مستعدّة لقرن القول بالفِعل.

ليس حال الشهداء المسيحيّين هكذا. إنّهم لم يرفعوا الشعار، ولم يسيروا في مظاهراتٍ أو مسيراتٍ، ولم ينادوا: بالروح، بالدم، نفديك يا يسوع، بل فدوه بدمه فعلاً في جوٍّ من الهدوء والصمت والحميميّة، من دون أن يُسمَع صوتهم في الشوارع ولا علا ضجيجهم في الساحات.

إنّ استشهاد أوّل شهداء المسيحيّة، الشمّاس اسطفانُس، الذي اعتبر أنّه ليس أفضل من سيّده، بذل الجهد للاقتداء بالمسيح في حياته كما في مماته. أمّا حياته فكانت خدمة (شمّاس) متواضعة تتفانى في إغاثة المعوزين من أرامل ويتامى.

وأمّا موته، فقد شهد للحقّ، فلم يسمع مستمعوه للحقّ "أتى إلى خاصّته وخاصّته لم تقبله"(يو 11/1)، بل سدّوا آذانهم "وارتفع صراخهم"(لو23/23). ودفعوه إلى خارج المدينة "درب الصليب والجلجلة"، ورجموه "صلبوه"(لو33/23) أمّا هو فجثا وصاح: يا ربّ لا تحسب عليهم هذه الخطيئة "إغفر لهم يا أبتِ لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"(لو 34/23).

في استشهاد اسطفانُس نموذجٌ وأساس للموقف المسيحيّ تجاه مَن يخالفوه الرأي ويعادونه. فالمسيحيّ مدعوّ بحكم سرّ تثبيته إلى أن يكون شاهدًا للمسيح، وأن يمضي في شهادته حتّى النهاية، حتّى الاستشهاد، فيصير الشاهد شهيدًا، ويصادق على مصداقيّة مضمون شهادته بالدم. وعلى هذه الشهادة أن تكون مسيحيّة إنجيليّة، أي بمنطق المسيح، لا بمنطق العالم. ولكي تكون كذلك عليها أن تتحلّى بالصفات التالية:

أن تستوحي روحانيّتها ومعناها من صليب المسيح. فكما أنّ المسيح بذل ذاته لأجلنا، كذلك علينا أن نبذل ذواتنا من أجل الآخرين.

أن تكون المحبّة هي الدافع إلى البذل لا الكراهية أو حبّ الثأر والانتقام. فالمسيح لم يمت وهو يحاول أن يقتل بل أن يخلّص. ولم يزهق روحه بحسب المبدأ: عليّ وعلى أعدائي، بل بحسب المبدأ: عليّ بدل أعدائي.

أن يتمّ البذل في جوٍّ من الروحانيّة الزاهدة. أمّا الروحانيّة، فتفرض أن يقدّم الشهيد ذاته والسلام يملأ قلبه، سلام المسيح الذي لا يعرفه العالم، ورضىً عميق بأنّ ما يفعله يرضي الله. وأمّا الزهد فهو الإيمان الراسخ والرجاء الأكيد بأنّه ليس لنا مدينةً باقية على هذه الأرض.

وأخيرًا، أن نقبل الألم والمعاناة، على مثال المسيح الذي ذهب إلى آلامه طوعًا. فما يُفرَضُ علينا من معاناةٍ وألم نستطيع أن نحوّله إلى اختبارٍ، ونضمّه إلى آلام المسيح، فيكون لألمنا معنى، ونستطيع بالتالي تحمّلها، حبًّا بالمسيح، هوالذي أحبّنا حتّى النهاية وبذل ذاته لأجلنا.

الأب سامي حلاق اليسوعيّ