المرحلة السابعة: مريم مثال الطفولة الرّوحية «أضواء
(شباب سائرون صوب يسوع برفقة تريز الصغيرة)
ـ لنتامل
١ـ١ إن مريم بتصاغرها الأقصى وباتّضاعها، هي المثل الأعلى لأبناء الملكوت كافّة. وهي التي، من بين المخلوقات جميعها، عاشت ملء سرّ الطفولة الروحية في كل لحظة من لحظات حياتها. ولا شكّ في أنّها مليكة السماء وسلطانة الملائكة والأرض... ولكن يجب أن ندرك تمام الإدراك انّ هذا السلطان يأتيها من الله الذي يسكنها ومن ابنها الإلهي الذي يهبها مجدَه وبدونه ليست شيئًا.
وهي تشهد لذلك عندما تعلن: لقد نظر الى تواضع أمته، (كلمة تواضع هنا يقابلها باليونانية كلمة حقارة) فمنذ الآن تطوّبني جميع الأجيال (لوقا ١/ ٤٨). ونشيد التعظيم يختصر البشارة السارة: الله يأتي ليغدق مواهبه الخاصة وكماله اللامحدود على الذين يعترفون حقًا، ببساطة وفرح، بوضعهم البشري الوضيع، وعلى جميع الذين يرتضون التّقدم منه وأيديهم فارغة.
١ـ ٢ ويسعنا القول: ما من مخلوق عبر التاريخ، كان ليعيش بانسجام مع دعوته كمخلوق، أفضل مما عاشته مريم. فمريم أفرغت ذاتها من كل شيء، وأخذت تقتبل ذاتها، بدون انقطاع، من الله. وما لاح البتّة في سريرة قلبها وعمقه، شبحُ ادّعاء، ولا ذرّت حزنها جرثومة كبرياء. وإنّما ظلّت، العمرَ، في تبعيّة حبّ لله خارقة العادة. فأمام هذه البنية التي لا شبيه لها، ذات نفس المنفتحة، الدائمة الجهوزية، لم يكن بوسع الله، إلا أن يتنازل، ليس فقط وهو يُغدق كل مواهبه، بل كل شخصه أيضًا: وهذا هو سرّ التجسّد! إنّ سكنى الله في حشا مريم جاءت متناسقة مع طاقتها على استقباله. وفي الواقع، كان الله بحاجة الى قلب تامّ الجهوزية لاستقباله كي يتجسّد.
١ـ٣ هل كانت مريم لتتيح تحقيق هذه الأعجوبة بعملها ومهارتها الخاصة؟ لو سلّمنا بذلك لكنّا نسينا، بعد، أنها ليست بشيء في حدّ ذاتها، وأن الله هو كل شيء فيها. وفي الحقيقة، إنما الله هو الذي أعدّ لنفسه، مُسبقًا، هذا القلب النقيّ. وهو، برحمته اللامتناهية السبًاقة، صاغ له مسكنًا لائقًا به، معصومًا من كل خطيئة منذ الحبل بمريم. فمريم، إذًا، هي، شأن كل واحد منّا، في نظام الفداء وتدبيره، وإن بصفة خاصة: لقد أفادت مسبقًا من ثمار آلام المسيح. والله لم يغفر لها الكثير كما غفر لمريم المجدلية، وإنما غفر لها كل شيء، حتى الخطيئة الأصلية، هذا الجرح بالولادة الذي يميل بناره الى السرّ. وإذا كان هناك من استحقاق علينا أن ننسبه الى هذه الأم العذراء، فهو أنها قالت: "نعم"، وأنّها اسلست دومًا قيادها لله، وأنها أباحت نفسها بدون تعب أو ملل لإخصاب النعمة بقولها: ها أنا أمة للرب، فليكن لي حسب قولك (لوقا ١/٣٨). لقد آمنت مريم حتى النهاية بهذه الكلمة التي وجّهها إليها العليّ القدير، بدون أن تضعف يومًا، وأن تتزعزع لها ثقة.
١ـ ٤ مع أن الظروف التي تحمل على الشك في هذه الكلمة كانت عديدة: فهذا ابنها راقد في مزوده، وبعد ذلك معلّق على خشبة العار... فمن عساه يكون هذا الملك؟ والى ما آلت إليه وعود المجد والملك الأبدي، التي اطلقها ملاك الرب في اثناء البشارة؟ واستسلمت مريم! وتأملت كل هذا في قلبها. ويحدّثنا الإنجيل عن بلبلة حدثت بين الرسل بينما كان المسيح يتألم. ولكننا نجد مريم، حينذاك، عند قدم الصليب: إنها العذراء الأمينة.
١ـ٥ لا شك في أن الليل كان شديد الظلمة في نفسها الي تمزّقها أصعب الآلام؛ لكنّ السلام كان يخيّم في الأعماق، وقلبها بقي يقظًا. وإن كان اليأس قد دخل الى نفوس البعض، فمريم ظلّت تنتظر صابرة، ان تتحقق الوعود، ويبرز الى العلن من بقي مستترًا وراء حجاب إنسانيته طوال ثلاث وثلاثن سنة. لقد أتاحت لله أن يفعل؛ فإيمانها لم يخنها إذًا: إبنها حيّ! المسيح قام! ولكي يكلّل هذا التسليم التام، عندما أنهت مريم رحلة حجّها على الأرض، رفعها ابنها اليه مغمورة بمجد الانتقال.
١ـ٦ أمّا تريز، فقليلاً ما كتبت حول مريم، باستثناء قصيدة طويلة كرّستها لها. لكن حياة تريز كانت مترعة بمريم. فقبل كل شيء، أفادت تريز من فعل القديسة مريم في حياتها، وبخاصة يوم العنصرة عام ١٨٨٣، الذي شفيت فيه، بشكل عجائبي، من مرضها الشديد الخطورة بفضل ابتسامة مريم. وفي أواخر أحاديثها أسَّرت الى إحدى أخواتها أنها كانت تكلّف الله القيام بمهامها على يد شفاعة العذراء لها. أضف الى ذلك، أن تريز اتّخذت، فعلاّ، مريم العذراء شفيعة لها ومثالاً في الحياة الروحية. فجاءت حياتها، في كلّ محطّاتها، مطابقة لحياة مريم، حتى ليمكننا القول إن طريقها الصغير نسخة طبق الأصل عن استعدادات قلب مريم.
١ـ٧ وأنت، بدورك، يمكنك أن تقوم بمحاولة الاقتداء هذه. والمحاولة ليست بحاجة الى انخطاف، الى ارتحالٍ للصين، والى إنجاز أعمال تستأثر بوسائل الاعلام. يكفيك أن تتصاغر، وأن ترضى بأن تكون ضعيفًا وفقيرًا أمام النعمة، وان تقدّم للرب، يوميًّا، وبمنتهى الثقة، مشقّاتك وسقطاتك، وقواك وأفراحك وصفاك، بفعل شكر. كما يكفيك ولوج هذا الطريق الصغير الضيّق، طريق الطفولة الروحية، بتنقيل قدميك على آثار أقدام تريز. حينئذٍ تصبح في عداد أفراد هذه الفرقة المكوّنة من النفوس المتصاغرة التي تنبّأت بها للقرن الحادي والعشرين والتي تعتبر هي وجهها المثال وقائدتها.
٢ـ لنستمع الى تريز
٢ـ ١ شفاء تريز
"حينئذٍ لم تجد تريز المسكينة عونًا لها على الأرض، التفتت هي أيضًا الى أمها السماوية. والتمست منها من كل قلبها أن ترأف أخيرًا بها... وبغتة ظهرت لي العذراء القديسة الجميلة، جميلة حتى إني لم أكن قد رأيت قط مثل هذا الجمال، وكان وجهها يتدفّق عذوبة وحنانًا لا يوصف. الا ان ما خرق أعماق نفسي كانت ابتسامة العذراء القديسة الخلابة. فتلاشت، عندها، جميع غمومي، وسالت دمعتان كبيرتان من مقلتيّ وتدحرجتا بصمت على خدّي. لقد كانتا دمعتي فرح لا تشوبه شائبة.
ففكرتُ: آه! إن العذراء قد ابتسمت لي، فكم أنا سعدة! ... أجل! لكنّي لن أبوح لأحد بذلك أبدًا، مخافة ان أفقد سعادتي. ومن دون أيّ جهد، خفضتُ نظري، فرأيتُ ماري وهي ترنو اليّ بحبّ. وكانت تبدو متأثّرة وكأنها تدرك النعمة التي منحَتها لي العذراء القديسة... آه! إني مدينة لها ولصلواتها المؤثرة بنعمة ابتسامة ملكة السماء. وحينما رأتني أحدّق في العذراء القديسة، قالت في نفسها: "لقد شُفيتْ تريز!". أجل، إن الزهرة الصغيرة ستولد لحياة جديدة، والشعاع النيّر الذي كان قد بعث فيها الدفء لن يوقف إنعاماته من بعد. إنه لا يعمل فجأة، لكنه بلطف وعذوبة أقام زهرته وأمدّها بالقوّة بحيث أنها بعد خمس سنين أخذت تتفتح على جبل الكرمل الخصيب."
(مخطوط أ ص ٣٠ ي؛ الأعمال الكاملة ص ٨٠ـ ٨١)
٢ـ ٢ كيف تنظر تريز الى العذراء القديسة
"حتى تعجبني موعظة عن العذراء القديسة وتؤثر فيّ، يجب أن أرى حياتها الحقيقية، لا حياتها المفترضة؛ وأنا متاكدة من أن حياتها الحقيقية كانت فعلاً بسيطة كل البساطة. إنهم يُظهرونها كأنها لا يمكن الاقتراب منها، فيجب إظهارها أنها يمكن الاقتداء بها، وإبراز فضائلها، والقول إنها كانت تحيا بالإيمان مثلنا، وان نعطي براهين على ذلك عبر الانجيل، حيث نقرأ: لم يفهما ما قال لهما (لوقا ٢/٥٠). وهذه العبارة الأخرى ليست أقل غموضًا: وكان أبوه وامه يُعجبان ممّا يقال فيه (لوقا ٢/٢٢). هذا الاعجاب يفترض بعض الدهشة، ألا ترين ذلك ، يا أميمتي؟
ما امتازت به العذراء القديسة عنّا هو أنها ما كانت تستطيع أن تخطأ، وأنها كانت معصومة من الخطيئة الأصلية؛ لكنها من جهة أخرى، كان حظّها أقلّ من حظّنا بكثير، لأنها لم تنعم بعذراء قديسة تحبّها؛ وإن لنا في ذلك عذوبة إضافية، ولها في ذلك عذوبة أقلّ."
(الدفتر الأصفر ٢١ آب/أغسطس؛ الأعمال الكاملة ٢ ١٠٧١ـ ١٧٢)
٢ـ ٣ لماذا أحبك يا مريم
ـ١ـ
لم احبُّك يا مريم؟
آهٍ! أودّ لو أشدو: لِمَ أحبُّك يا مريم!
آهٍ! أودّ لو أشدو: لِمَ يُثلج قلبي اسمُك ـ العذوبة!
آهٍ! أودّ لو أشدو: لِمَ فِكرهُ فائق عظمتِك
لا يمكنُها أن تُشيع في نفسي الرُعبَ!
الفائقِ، لو تأملتُكِ في مجدِكِ المهيبِ،
الفائقِ، ألقًا، مجدَ أيّ قديسٍ،
لا يَسَعُني أن أصدّق أنني ابنتكِ،
فأمامَكِ، يا مريم، أخفض ناظريَّ
ـ ٢ـ
على الأم أن تشاركَ وليدَها البكاءَ... أن تُقاسمه الوجعَ،
ليُمكن أن يعشقها الوليد.
آهٍ، أمي الحبيبة، كم سكبتِ من الدموعِ
فوق الشاطئِ الغريب، لتجذبيني إليكِ!
أميّ! إنّني أجرؤ على النظرِ إليكِ... على الاقتراب منكِ
وأنا أتأملُ حياتكِ في الانجيل المقدس،
ولا يصعبُ عليَّ ان أتصوّرَ نفسي ابنةً لكِ،
لأنني أراكِ عِرضةً للموت مثلي، ومثلي تتألمين...
ـ ٣ـ
عندما يعرضُ عليك ملاكٌ من السماءِ أن تكوني والدةَ
الإله الذي، حُكمًا، سيملكُ أبد الدهورِ،
أراكِ تفضّلين، يا مريم،ـ ويا لما تُفضّلينه من سرّ!
كنزَ البتوليّة الفائقَ كل وصفٍ.
فأدركُ أن تكونَ نفسك، أيتها العذراءُ النقيّةُ،
أغلى على الربِّ من المقامِ الإلهي؛
واُدركُ أن نفسَكِ، الوادي المتواضع العَطوف،
يمكن أن يَسعَ يسوع، أوقياس الحبّ...
ـ ٤ـ
آه، مريم! أحبّكِ وأنت تُعلنينَ ذاتَكِ أمَةٌ
للربِّ الذي تَسْحَرين باتّضاعكِ!
هذه الفضيلةُ الخفيّة تجعلكِ كليّةُ القدرةِ...
تجذبُ الى قلبك الثالوث الأقدس.
حينَها تجسّدَ، في حشاكِ، الابنُ المساوي للآب،
وروحُ الحبِّ غَمَرَكِ بظلّه...
وعددُ إخوةِ الابنِ، الخطأة، سيكونُ كثيرًا،
لأنه علينا أن ندعوَه: "يسوع، ابنك البكرَ!"...
ـ ٥ـ
آه، أمّاهُ الحبيبةُ! بالرغمِ من حقارتي،
أنا، مثلكِ، أنعمُ، في داخلي، بالكليّ القدرة
غيرَ أنّني ارتعشُ خوفًا وأنا أُبصرُ ضعفي:
فكنزُ الأمِّ ملكٌ لابنتها.
وأنا ابنتُكِ، أمي الحبيبة!
أّوَليستْ فضائلك وحبُّك إرثًا لي؟
والى ذلك، عندما تحلُّ القربانة البيضاءُ في قلبي،
فإن يسوعَ، حَمَلكِ الوديعَ، يَخالُ نفسَهُ يَحِلُّ في قلبكِ!...