الله صبور جدًّا ويتابع، مع الزمن، تربية وتنشئة شعبه! «أضواء

أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان، وأستهلّ تعليمه الأسبوعيّ بالقول: أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نبدأ اليوم سلسلة تعاليم جديدة حول الكنيسة، وهي تشبه ابنًا يتحدث عن أمِّه وعائلته.

فالتحدث عن الكنيسة هو كالتحدث عن أمّنا وعائلتنا. إنّ الكنيسة في الواقع ليست مؤسسة لها غاياتها الخاصة أو جمعيّة خاصة أو منظمة غير حكوميّة، كما ولا يجب أن يقتصر نظرنا على الإكليروس أو الفاتيكان... الكنيسة هي نحن جميعًا! ليست للكهنة فقط، فالكهنة هم مجرّد جزء منها لأنّ الكنيسة هي نحن جميعًا! وبالتالي علينا ألاّ نحصرها فقط بالكهنة والأساقفة والفاتيكان. هؤلاء هم جزء منها لأنّ الكنيسة هي نحن جميعًا، كعائلة! والكنيسة هي واقع أوسع ينفتح على البشريّة ولا يولد فجأة. لقد أسّسها يسوع ولكنها شعب ذو تاريخ عريق وتحضير بدأ قبل المسيح نفسه.

تابع الحبر الأعظم يقول: نجد هذا التاريخ أو "حقبة ما قبل التاريخ" للكنيسة في صفحات العهد القديم. فبحسب سفر التكوين، إختار الله إبراهيم، أبينا في الإيمان، وطلب منه أن ينطلق من أرضه إلى الأرض التي يريه إيّاها (راجع تك 12، 1- 9).

بهذه الدعوة لا يدعو الله إبراهيم وحده كفرد وإنما يشمل منذ البدء عائلته وأهله وجميع الذين يخدمون في بيته. وما إن بدأ المسيرة – وهكذا بدأت مسيرة الكنيسة أيضًا – حتى وسّع الله الآفاق مجدّدًا وأفاض بركته على إبراهيم ووعده بنسل لا يُعدّ كنجوم السماء ورمل شاطئ البحر. إنّ أول عنصر مهم هو أنه بدءًا من إبراهيم أقام الله شعبًا ليحمل بركته لكلّ عائلات الأرض. وداخل هذا الشعب يولد يسوع. فالله هو الذي أقام هذا الشعب وهذا التاريخ، الكنيسة التي تسير، وهنا يولد يسوع داخل هذا الشعب.

أضاف الأب الأقدس يقول: أمّا العنصر الثاني هو أنّ إبراهيم لم يبنِ حوله شعبًا وإنما الله هو الذي منح حياة لهذا الشعب. فالإنسان عادة هو الذي يتوجّه للآلهة بحثًا عما يقرّب المسافة وطالبًا العون والحماية. لقد كان الناس يصلّون للآلهة ولكنّ في هذه الحالة نشهد شيئًا لم يسبق له مثيل: الله نفسه هو المبادر – فالله هو الذي يقرع على باب إبراهيم ويقول له: إنطلق من أرضك وابدأ المسيرة وأنا سأجعل منك شعبًا عظيمًا. هكذا بدأت الكنيسة وداخل هذا الشعب يولد يسوع. لكن الله هو المبادر – وهو يوجّه كلمته للإنسان ويخلق رباطًا وعلاقة جديدة معه.

قد يسأل أحدكم: "ولكن يا أبت كيف يكون هذا؟ هل يُعقل أن يكلّمنا الله؟" نعم! "وهل يمكننا أن نكلمه بدورنا أيضًا؟"، "وهل يمكننا أن نحاوره؟" "نعم وهذا الحوار يدعى صلاة، والله هو المبادر منذ البدء". هكذا يقيم الله شعبه من جميع الذين يصغون إلى كلمته وينطلقون في المسيرة واضعين ثقتهم به.

تابع البابا فرنسيس يقول: هذا هو الشرط الوحيد: الثقة بالله. إن كنت تثق بالله وتنطلق في المسيرة فأنت عندها تبني الكنيسة. هكذا تقوم الكنيسة. فمحبة الله تسبق كلّ شيء. الله هو الأول دائمًا، هو يسبقنا. يقول النبي أشعيا أو إرميا لا أذكر جيّدًا، يقول أحدهما أنّ الله هو كزهر اللوز لأنه الشجرة الأولى التي تُزهر في الربيع، ليشير بهذا إلى أنّ الله يزهر قبلنا، وعندما نصل نجده بانتظارنا، فهو يدعونا ويجعلنا نسير! هو يسبقنا دائمًا وهذا هو ما نسمّيه حُبًّا لأنّ الله ينتظرنا دائمًا.

قد يقول أحدكم: "ولكن يا أبتِ أنا لا أعتقد أن الله ينتظرني، لأنّ حياتي ليست صالحة فكيف يُعقل أن يكون الله بانتظاري؟" الله ينتظرك! وإن كنت خاطئًا كبيرًا هو ينتظرك أكثر وينتظرك بحبّ كبير، لأنه أحبّنا أولاً. هنا يكمن جمال الكنيسة التي تقودنا نحو هذا الإله الذي ينتظرنا والذي يسبق إبراهيم وآدم أيضًا.

أضاف الحبر الأعظم يقول: لقد سمع إبراهيم وأهله دعوة الله وانطلقوا في المسيرة بالرغم من أنهم لم يعرفوا جيّدًا مَن هو هذا الإله وإلى أين يريد أن يقودهم. هذا صحيح فإبراهيم انطلق في مسيرته كما قال له الله ولكنّ لم يكن لديه كتاب لاهوت يشرح له عن هذا الإله الذي يدعوه. لقد وثق به وبمحبته! لقد جعله الله يشعر بمحبته له ولذلك وثق به. لكن هذا لا يعني أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا دائمًا مقتنعين وأمناء...

في الواقع ومنذ البدء كان هناك من قِبَل الشعب مقاومة وإنغلاق على نفسه ومصالحه ومحاولات للتفاوض مع الله لحل الأمور بأسلوبه الخاص. إنها الخيانات والخطايا التي تطبع مسيرة الشعب عبر تاريخ الخلاص كلّه، تاريخ أمانة الله وعدم أمانة الشعب. لكنّ الله لا يتعب، الله صبور جدًّا ويتابع، مع الزمن، تربية وتنشئة شعبه، كأب مع ابنه.

تابع الأب الأقدس يقول: فالله يسير معنا. يقول النبيّ هوشع: "لقد سرت معك وعلّمتك أن تسير كما يعلّم الأب ابنه" إنها استعارة جميلة ولكن هكذا هو الله معنا، يعلّمنا أن نسير. وهذا هو الموقف عينه الذي يحافظ عليه تجاه الكنيسة.

في الواقع، نحن أيضًا وبالرغم من مقاصدنا في إتّباع الرّبّ يسوع نختبر يوميًّا الكبرياء وقساوة قلبنا. ولكن عندما نعترف بأننا خطأة، يملأنا الرّبّ برحمته ومحبّته. هو يغفر لنا دائمًا وهذا ما يجعلنا ننمو كشعب الله وكنيسة: ليست مهارتنا ولا استحقاقاتنا – لأننا لسنا بشيء – وإنما الخبرة اليوميّة لمقدار محبة الله لنا واهتمامه بنا، هذا ما يجعلنا نشعر فعلاً بأننا خاصّته وبين يديه ويجعلنا ننمو في الشركة معه وفيما بيننا. فأن نكون كنيسة هو أن نشعر بأننا بين يدَي الله، الذي هو أب ويحبّنا، يحنو علينا وينتظرنا. وهذا أمر جميل جدًّا.

وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول: أيها الأصدقاء الأعزاء، هذا هو مشروع الله، هذا ما كان يفكر به عندما دعا إبراهيم: أن يقيم شعبًا مباركًا بمحبته يحمل بركته لجميع شعوب الأرض. هذا المشروع لم يتغيّر ولا زال قائمًا. فالله قد أراد أن يتمّمه بواسطة المسيح ويتابع اليوم أيضًا تحقيقه في الكنيسة.

لنطلب إذًا نعمة البقاء أمناء لإتّباع الرّبّ يسوع والإصغاء إلى كلمته، جاهزين للإنطلاق يوميًّا، على مثال إبراهيم، نحو أرض الله والإنسان، وطننا الحقيقي، فنصبح بركة وعلامة محبة الله لجميع أبنائه. يطيب لي أن أفكر بمرادف آخر يعبّر عنا نحن المسيحيين: إنهم رجال ونساء، إنهم أشخاص يباركون. ينبغي على المسيحي أن يبارك دائمًا في حياته، أن يبارك الله والآخرين جميعًا أيضًا. نحن المسيحيون أشخاص يباركون، ويعرفون كيف يقومون بهذا! وهذه لدعوة جميلة!

إذاعة الفاتيكان