العائلة اللبنانيّة المارونيّة: تطلّعات وآفاق راعوية(1) «أضواء

 

 

 

1- دعوة العائلة ورسالتها

قدّس الله العائلة بميلاد إبنه، يسوع المسيح مخلّص البشرية، في كنف عائلة متواضعة. مثال العائلة المسيحيّة هي العائلة المقدّسة في الناصرة حيث كلّ شخص يسعى ليكون في خدمة الآخر. أمة الله مريم  قبِلَت أمومتها واعتبرتها عطية من الله، ويوسف الصدّيق والبارّ مارس دوره كزوجٍ ومربٍّ.

العائلة هي دعوة ورسالة الله ألآب الخالق. وهي أيضًا "طريق" الخلاص كما أنّها "صوته" الذي يفترض نداءً إلهيًّا، بالاعتماد على نعمة الله وعطيته لاستمرار التضامن والصدق والإخلاص. وقد أعلن البابا يوحنّا بولس الثاني:" لا تكتشف العائلة في مخطط الله الخالق والفادي "هويتها" و"ماهيتها" وحسب، بل "رسالتها" وما يمكن تأديته من واجب".

يقيننا أنّ العائلة هي إحدى ركائز المجتمع اللبناني وهي أيضًا الخليّة الأم لديمومة الكنيسة. وهي تتكاثر بوحي من كلمة الله والأسرار، رغم مواجهتها اليوم للعديد من المخاطر. لقد قامت العائلة المارونيّة في لبنان بدورٍ هام في الحفاظ على ازدهار الحياة والإيمان المسيحيّين، ونقلهما من جيل إلى جيل. فكانت المعجن الذي يستقي منه كلّ فرد العادات والتقاليد والفضائل والإيمان المسيحي الحقّ. أوكل الله إلى الأزواج مهمة تربية أولادهم. علمًا أنّ هذه الرسالة تبدأ أوّلاً عبر إعطاء الحياة للطفل ومن ثمّ محاولة نقل الإيمان المسيحي إليه، من خلال طريقة عيشهم، ومثلهم وتعليمهم. العائلة المارونيّة أعطت أولاداً مسيحيين.

"تفاعلت العائلة المارونيّة مع كنيستها منذ نشأتها حتى يومنا هذا، إذ تحلّقت الجماعة المؤمنة حول الكنيسة والدير وتمسّكت بالإيمان المسيحي وبالخلقيّة التي يفرضها هذا الإيمان، كما شهدت، بشجاعة، لهويتها التاريخية إلى جانب رعاتها، متحدّية الأخطار الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة والبيئية المُحدِقة بها". 

توفّر العائلة الحبّ لأنّها "شركة حبّ وحياة عميقة" (فرح ورجاء 48). إنّها "جماعة حياة ومحبّة متماسكة" (نور الأمم 11) تقوم بإنشاء شركة أشخاص، خدمةً للحياة المساهمة في تطوير المجتمع والمشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها. وظيفة العائلة تتجسّد في إستمرار الحياة عبر الإنجاب كما أرادها الخالق، على  أن تحيا بأمانة واقع الشراكة وحقيقتها. ويُبرهنُ عن قوّة هذه الشراكة بالمحبة التي تُسهم في بناء حضارة المحبّة.

تميّزت العائلة المارونيّة بإحتضانها للإيمان المسيحي، كما بروحها الرسولية التي تفاعلت مع معظم شرائح المجتمع وفئاته مع إنّها لا تشاركها إيمانها، فاتّصفت بالانفتاح والحوار في سبيل "العيش معًا". ومن مهمّات العائلة المارونيّة المحافظة على كرامة سرّ الزواج المقدّس. هذه المبادئ العميقة والجميلة تجعلنا نتأمّل في هذا السرّ العظيم، سرّ حبّ الله للبشر، الذي يتجلّى في سرّ الحبّ ضمن العائلة. "إنّه لسرّ عظيم" على حدّ قول مار بولس (أفسس 5: 32).

2- الوضع الراهن للعائلة

من المؤكّد أن الألفية الثالثة تحمل طابع التطوّر والتغيير. وهذا التطوّر بدأ يلامس الجذور في العائلة المارونيّة، كما ويطال أيضًا أسس العلاقة بين الأهل والأولاد، وبين العائلة وأفراد المجتمع. كذلك طاول التغيير عالم التواصل والنظرة إلى مفاهيم الأخلاق والقيم الإنسانيّة، مع التأكيد أنّ كلّ تغيير وتطوّر يتّسمان بوجهين: واحد إيجابي والآخر سلبي.

إنّ العائلة المارونيّة في لبنان لهي كنز ثمين. فالبرغم من نتائج الحروب التي عصفت بالبلاد والتحوّلات السريعة والصعوبات الكبيرة والمخاطر المتعددة، بقيت العائلة المارونيّة متماسكة ووفية لدعوتها ورسالتها، فهي مثال للأمانة والوحدة والمحبّة.

إنّ حضارة القرن الواحد والعشرين، بسلوكيتّها المنحرفة، وتصرفاتها الغريبة، ونمطها الإستهلاكي الفاحش، ونزعتها الفردية، مع ما يرافقها من تسلط وتطوّر سريع في عالم الإتّصال والتواصل، وظهور صراع الحضارات، وتنامي الأصوليات والتطرّف الديني وأمور عصفت بالعائلة المارونيّة وتُمعن في ضرب مستقبلها ومصيرها، كما تطال بنية المجتمع ككلّ. فالعائلة مستهدفة في صميمها وكينونتها وأسسها، كما في قيمها الإنجيليّة الثابتة.

تعتبر العائلة المارونيّة بتربيتها وأمانتها قدوة وهذا ما يفسّر بقاءها متّحدة ومتماسكة في حبّها، فهي معروفة بفرادتها وتعاضد أفرادها وغناها الروحي، كما أنّها إحدى ركائز المجتمع وجوهره وقلبه. والحياة العائليّة هي خاصيّة ذات أهمية في المجتمع اللبناني. من هنا لا بدّ من العمل على تطوّر العائلة على جميع الأصعدة وذلك من خلال استنباط الوسائل الحديثة والطرائق المتجدّدة التي تجعلها تستمر في تجدّدها إنسانيًّا وروحيًّا.

وهكذا تبقى أرضًا خصبة لتنامي العطف والتعاضد والأخلاق والسلام والمحبّة العميقة. وتجسّد العائلة الكنيسة البيتية التي تعيش نعمة سرّ الزواج، وتصبح جماعة إيمان وصلاة، فتساهم في بناء ملكوت الله على الأرض من خلال الكلمة والصلاة وخدمة الحياة البشرية.

وعليه، فمن غير المنطق هدر الوقت في التوقّف عند الحنين إلى الماضي، وتجاهل الهدف الأساسي، إن لم يكن الأوحد، ألا وهو السعي إلى التجدد وبناء مستقبل أفضل.

إمتازت العائلة المارونيّة بالروح الرسوليّة وتعلّقها بالوطن والأرض، كما تعلّقها بالكنيسة التي هي بالمطلق مرجعية روحيّة ووطنية وإجتماعيّة. فالهوية الوطنية للموارنة، ضمن منظومة تعدّد الطوائف، تنتمي للكنيسة الحامية لأبنائها. وكما أشرنا سابقًا فإنّ العائلة المارونيّة تواجه اليوم تحديات جمّة وعلى جميع الأصعدة.

من هنا لا بدّ لراعوية العائلة أن تقرأ بعمق الواقع المستجدّ، بهدف العمل على إستنباط سبل ملائمة، من شأنها أن تحافظ على هوية العائلة ورسالتها وأن تجدّد روحانيتها كما تفهمّها ومراعاتها لبعض أوضاع المعمّدين الذين لا يلتزمون بتوجّهات الكنيسة.

لا بدّ أن نلفت الإنتباه إلى معاناة العائلة المارونيّة بسبب تلك التحوّلات السريعة من النواحي الإقتصادية، الإجتماعيّة، السياسيّة والأخلاقيّة وإلى تطوّر الظروف الحياتيّة ومنها: الوضع الإقتصادي المتردّي وانتشار البطالة، وتقلّص فرص العمل وصعوبة الحصول على مسكن، وعدم القدرة على تأمين إحتياجات الحياة اليوميّة، وظاهرة الزواج المدني والمختلف، والمساكنة العلنية، وغير العلنية، وتعدد العلاقات العاطفية-الجنسية خارج إطار سرّ الزواج، وحرّية الممارسة الجنسية، واللجوء إلى تعاطي المخدرات والكحول والميسر، وازدياد القلق على المستقبل والإحباط من الواقع الأليم، ناهيكَ عن ممارسة العنف المنزلي، وتفاقم الخلافات الزوجية، والأعباء المترتبة من جرّاء عمل المرأة، والإنفصال بين الزوجين، وتراجع نسبة الزيجات، والصراعات السياسية والحزبية، والتناحر الطائفي والمذهبي، وتفشّي الفساد، والتعصب، والأصولية، وهيمنة الإعلام والإعلان لبعض البرامج والإعلانات المهدّمة، وفقدان المواطنة وروح المسؤولية، والخوف المستمرّ من عدم إستمرار وجود العائلة المسيحيّة في الوطن، وواقع الهجرة الذي ساعد على شرذمة العائلة، كذلك الهجرة الداخلية، أمور تساهم في زعزعة أسس العائلة ورسالتها ودورها في المجتمع.

  نرى من خلال واقع العائلة اليوم، وفي خضّم العولمة، تحوّلاً في عيش الإيمان المسيحي وممارسته، لا سيّما عدم الإلتزام بالطقوس الليتورجية والاحتفال بالأسرار المقدّسة والعلاقة العميقة مع السيّد المسيح.

من هنا حاجة العائلة الملحّة إلى تنشئة دينية ومعلومات جدّية وصحيحة، وضرورة إعلان إيمانها وعيشه بحسب تعاليم السيّد المسيح وكنيسته. فالتراجع الواضح في فهم الإنجيل وتطبيقه أدّى إلى تفاقم ظاهرة تفكّك العائلة، وبروز نزعة ماديّة وإستهلاكيّة، أدّت إلى ضياع بعض القيم الأخلاقيّة وتفشّي المظاهر الخارجية، الأمر الذي أدّى إلى خمور من العلاقات الإجتماعية. والتعلّق بالمقابل بالمفاهيم الخاطئة للحريّة، والتمسك برفض المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة. إضافة إلى ذلك فإنّ عدم تفهّم وتنظيم حياة المرأة المهنية يُربك حياة العائلة. 

إنّ سرعة التغيير في الإطار الإجتماعي إضافة إلى الوضع الإقتصادي المتردي، إنعكس سلبًا على الحياة العائليّة، ممّا أدّى إلى زيادة الضغط والتوترات والمنازعات في ما بين أفراد العائلة، ممّا يؤثّر سلباً على كافة أفراد المجتمع. الوضع الراهن للعائلة في لبنان والشرق الأوسط متقارب جدًّا، لا سيّما فيما يتعلّق بتهديد الوجود المسيحي وإلغائه بسبب تنامي الأصوليات والتطرّف الديني وعدم قبول فكرة "العيش معًا"، والآخر المختلف.

كلّ هذه التحديات المطروحة على الكنيسة اليوم، تستدعي درس الواقع، وتبني خطة مستقبلية، وتنفيذ إستراتيجية واضحة، ممّا يعني إعداد مقترحات وإعتماد حلول عمليّة بهدف تثبيت وضع العائلة وتحسينه للحفاظ عليها، ممّا قد يحول دون تفاقم الأزمة.

فتلك التحديات التي ذكرناها آنفًا تدفع براعوية الزواج والعائلة إلى معالجة بعض القضايا والصعوبات التي تواجه شبيبة الكنيسة المارونيّة وعائلاتها، إن من حيث فهم الإيمان وعيشه، وإن على صعيد هشاشة إدراك البُعد الإنساني الذي يُلزم بالتعامل معه بطريقة صحيحة وسليمة وذلك من خلال المحافظة على روح الأنسنة وتعميق الناحية الإنسانيّة، التي بدورها تؤدّي إلى إنشراح الثنائي ونمّوه من خلال حبّ صادق وعميق مبني على إحترام الآخر وقبوله والتضحية المشتركة من أجل تربية عائلة مسيحيّة موّحدة تستقي تعاليمها من الخالق. يتبع...

موقع Zenit - الأب الدكتور نجيب بعقليني