التوبة تقودنا إلى حنان الله «أضواء

"في كل مرّة نعترف فيها، يعانقنا الله" بهذه الكلمات إختتم البابا فرنسيس المقابلة العامّة ليوم 19 فبراير الماضي، بعد ذلك إحتشد المؤمنون في الكنائس راغبين في الإعتراف وهو أمر لم يقوموا به منذ سنوات عديدة.

وعشية إنطلاق مبادرة البابا فرنسيس اليوم "24 ساعة من أجل الرب" والتي أسماها أيضاً "يوم المغفرة" خصّ الكاردينال ماورو بياشينزا، رئيس مجمع التوبة الرسولية، أليتيا ببعض التأملات في هذه المقابلة:

هل تعتقدون صاحب النيافة بأنه اليوم وبفضل كلمات الحبر الأعظم يتمّ إعادة إكتشاف أهميّة التوبة؟

بالتأكيد.

أعتقد بأن سرّ التوبة أصبح للعديد، وللأسف، واقعاً في النسيان وذلك بسبب فقدان المعنى الصحيح للخطيئة، وهذا النسيان خلق نوعاً من "فقر دم" روحيّ لدى الكثيرين.

أعتقد بأن شكلاً من إعادة إكتشاف هذا السرّ تمّ خلال السنة الكهنوتية، التي عرضت العديد من المسائل التي تتعلق بهويّة الكاهن وخدمته المتمثلة في المحبة الراعويّة للإفخارستيا، والعلاقة التي تربط  بين الكهنوت والإفخارستيا وصولاً إلى الخدمة الكهنوتية عبر سرّ المغفرة، الإعتراف.

كانت بالطبع الطريقة التي تكلم بها قداسة البابا عن التوبة ورحمة الله مهمة حيث إمتازت بروحية عميقة تدفعك إلى الإقتناع، ويرتبط حديث قداسته عن الرحمة مع سرّ التوبة بشكل وطيد، لأننا في هذا السرّ ننهل من نبع الرحمة جرعات كبيرة، وهناك يُخلق الإنسان من الجديد، من وجهة النظر الروحية بالطبع. لسرّ الاعتراف وقع على النسيج الإجتماعي الذي يعيش فيه المعترف، على بيئته الإجتماعية، يتأتى من استعادة الوعي بأننا خطأة، ولكن أيضاً بمحبة الله لنا.

يغذّي الإعتراف من جهة الشعور بالتواضع، ومن جهة أخرى الشعور بمحبّة الله الذي يعيد بناء الإنسان من الداخل مهما كانت أفعاله، على أن تتوافر فيه شروط الإقرار بارتكاب الخطيئة، بالخطأ، إنه عنصر تجدد يشعر به الإنسان.

ورويداً رويداً، وبشكل تدريجي يتحقق لدينا الوعي، وما من شك في أن كلمة ومثال وتعاليم قداسة البابا المفضلة باستخدام عبارات محببة وظريفة، التي تظهر حسّه الراعوي، هي بمثابة دواء منعش  لسرّ التوبة، يجعلنا ندرك أن هذا السرّ يطال مباشرة الشخص بحد ذاته، ولكنه يتوسع أيضاً كبقعة زيت ليطال المجتمع، وذلك لأنه يخلق قلوباً متصالحة، قلوباً تنبض بالسلام، وحساسية عالية تجاه قيم التعايش الإنساني كافة. ومن البديهي أن تنقية الضمائر أمر ينعكس على الحياة العائلية، في أماكن العمل وعلى البيئة الاجتماعية، وأيضاً على العدالة الإجتماعية.

التوبة إذاً سرّ له تأثير على المجتمع بكامله بينما ينطلق من وضع الإنسان نفسه أمام الله بشكل مباشر. عندما كان راتزينغر(البابا بنديكتوس السادس عشر لاحقاً) كاردينالاً أشار الى نوع من الخلط بين البعد الجماعي والبعد الشخصي لسرّ الإعتراف. هل هذا صحيح؟

هناك توازن يجب التوصل إليه. فالعلاقة هي محض شخصية، لأنه بالإعتراف يضع  الشخص ضميره تحت أشعّة قداسة الله فيتعرف هكذا على نفسه بطريقة أفضل. ثم هناك تلك العلاقة المباشرة التي ينحني خلالها  الرب على روح الشخص. الرب لايحب أبداً بشكل مجمهر، بل بشكل شخصي لكل إنسان بحد ذاته.

تصل محبته إلى الجميع بالطبع لكنها محبة لكل فرد لا يمكن أن تتكرر. ثم يتوسع هذا الميلاد الجديد الذي يتحقق على الصعيد الشخصي عبر سرّ الإعتراف، كما في الدوائر المتداخلة، ليطال المجتمع بكامله. 

نقول من وجهة النظر اللاهوتية إن الإعتراف يطال شركة القديسين بالكامل، لأنه نوع من غذاء صحي يدخل إلى جسد المسيح السريّ، وبالتالي تصلي الجماعة المؤمنة بأسرها دائماً من أجل توبة الخطأة، إذا كانت بالفعل جماعة مؤمنة، إذاً يهمني هذا السر ويطالني .ولذلك هو بالفعل عامل جماعي، على الرغم من كونه بشكل أكبر عاملاً داخلياً بالنسبة للكنيسة.

ثم هناك عامل جماعي آخر هو "الإنعكاس"، فالمصالحة التي أحصل عليها من خلال الإعتراف هي أيضاً فرح داخلي يقودني إلى أن أكون أكثر "حساسية". فمن المسلمات أن أكون، على سبيل المثال، نزيهاً في العمل، أنه عندما  أعترف يكون علي القيام  بفحص للضمير، ثم يتوجب علي بعد ذلك أن أرغب في إجراء فحص الضمير هذا.

علي أن أكون لطيفاً مع جاري حتى لو كنت أعتبره سمجاً، وسيكون علي أن أبدأ النطر إليه بطريقة جديدة. هذه أمثلة بسيطة فقط، ولكن يمكنها أن تتضاعف إلى ما لا نهاية .

ما هي العلاقة بين البعدين الفردي والجماعي للتوبة، الخجل الذي يعيد الانسان اكتشافه كقيمة، والفرح؟

في ما يتعلق بالخجل دار الحديث دائما عن نوع من احمرار الوجه خلال الإعتراف، أي أن هناك في بعض الأحيان خجلاً من الاعتراف  ببعض الهفوات، أو بعض النواقص، أو بعض الزلات. ولكن هذا يشكل جزءً من العودة ، أي أنه أحد أبعاد التوبة. يمكننا القول أن هذا يشبه، إلى حد ما، تنقية الأنفس المطهرية كما رأتها القديسة كاترينا الجانوية. أي أن النفس المطهرية تحس بداخلها بألم ووجع، لأنها بعيدة عن رؤية الله التي خُلقنا من أجلها.

إلا أن هذا الألم هو في الوقت عينه نوع من حنين، شأن الحنين الأليم الذي يتذكر به الإنسان شخصاً بعيداً يحبه. وهذا الحنين هو الدافع لتنقية الذات، لكي نقدر أن نرى الله وجها لوجه وأن نستحق الطوبى التي لا تنتهي أبدا .

هذا هو الخجل من الإعتراف: أن يزعجني ويخجلني الإقرار بالزلات، ولكني في الوقت ذاته أشعر بأنني أتجه نحو التنقية، تزداد كراهيتي لتلك الزلات وأدرك أكثر من أي وقت مضى أني أخطات وأن علي الارتداد بفضل نعمة الله. يكبر في الوقت نفسه حبي للمسيح وبالتالي حبي لإخوتي، ومن أجل هذا الحب أقدم أنا أيضاً شيئاً ما بشكل أو بآخر.

تمتزج مشاعر الألم والخجل مع مشاعر الفرح، لأن سرّ المصالحة هو بحد ذاته عطيّة تغدق الفرح. إنه هبة لنا نحن الكهنة أيضاً، وكلما كنا مدعوين لممارسة هذا السرّ كلما كان علينا إكمال نواقصنا. نحن إذاً معرّفون وتائبون بالوقت عينه، وفرحنا بالمغفرة يلازم فرحتنا بأن يغفَر لنا. لذلك أشعر بأنه يجب أن أتمنى للمعرّفين وللتائبين أن يختبروا هذا الفرح البلوري، إنها أمنية فصحية أطلقها من القلب لذاتي وللآخرين جميعاً.

موقع Aleteia