إيمان مريم «أضواء
في شهر أيّار لابدّ لأي مؤمن أن يتوقف كثيراً أمام إيمان مريم فهى النموذج والمثال ومن خلالها وُلد المسيح فى العالم ومن خلالها أيضاً يولد بالإيمان فى قلب كل مؤمن. فَقالَت مَريَم:
"أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ". لو١:٣٨
إنّ حدث بشارة الملاك جبرائيل لسيّدتنا مريم العذراء كان ومازال الإعلان الأول والأسمى للإيمان الذى يرضي الله ويحقق مشيئته نحو الإنسان، فعلى عكس تصرّف حواء الأولى بعصيان واستهتار نحو وصية الله الهيّنة نجد العذراء مريم تقبل دعوة الله البالغة الصعوبة بكل شجاعة وتواضع ودون تحفّظ أو طلبات، لقد نطقت مريم بروح العبادة الحقيقية بأنها أمة أو خادمة للرب وكانت تعنيها بحق، فالخادم لا يناقش سيّده فى أوامره بل يطيع فى خضوع وفرح.
قَبِلَت مريم دعوة الله لها بإيمان حقيقى، قبلتها بروح تجرّد كامل فلم يتسرّب إليها أي شكوك أو أطماع كالتي أثارها الشيطان فى قلب حواء الأولى وهو يدفعها بالخبث والكذب لعصيان وصية الخالق: "فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ." تك٣: ٥.
قَبِلَت الدعوة بروح الخدمة ومحبة القريب" وفي تلكَ الأَيَّام قَامَت مَريمُ فمَضَت مُسرِعَةً إِلى الجَبَل إِلى مَدينةٍ في يَهوذا. ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات." لو ١: ٣٩-٤٠ ، قَبِلَتها بكل فرح وتهليل "فقالَت مَريَم: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي." لو ١: ٤٦-٤٧ ، قَبِلَت الدعوة على الرغم من السيف المزمع أن يخترق نفسها ببطء شديد طوال حياتها "وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ." لو۲: ٣٥، فلا عجب أن تتوجه الكنيسة المقدسة منذ نشأتها إلى والدة الإله القديسة كنموذج أكمل للإيمان يفوق كل الأنبياء والرسل
"وفي اليَومِ الثَّالِث، كانَ في قانا الجَليلِ عُرسٌ وكانَت أُمُّ يَسوعَ هُناك. فدُعِيَ يسوعُ أَيضاً وتلاميذُه إِلى العُرس.ونَفَدتِ الخَمْر،
فقالَت لِيَسوعَ أُمُّه: "لَيسَ عِندَهم خَمْر."
فقالَ لها يسوع: "ما لي وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة ؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد."
فقالَت أُمُّه لِلخَدَم: "مَهما قالَ لَكم فافعَلوه" " يو ۲: ١-٥
فى هذا النص العميق الذى يسرده يوحنا الحبيب نرى العديد من المعاني المستترة، ففى هذا العرس الذى يشير إلى عرس المسيح فى قلب البشرية لا نجد من بين الحضور جميعاً مَن هو قادر على تغيير مجرى الأحداث سوى يسوع المسيح شمس البر ومريم العذراء أمه.
تتألق مريم فى هذا العرس بفضائلها الإلهية الثلاثة فبالمحبة المغمورة بالأمومة تشعر بآلام الجماعة البشرية واحتياجها وتتضامن معها وكأنها مشكلتها الخاصة، وبالإيمان الفائق وإستحقاقات الأمومة الإلهية تلجأ للمسيح إبنها فترفع قلبها وصلواتها بكل إيمان "ليس عندهم خمر" ليس عندهم فرح، ليس عندهم رجاء أو طمأنينة.
إنها الأم التى تدرك إحتياج أبنائها البشر وبؤسهم وجوعهم الذى لا يسدّه كل ما فى العهد القديم من شرائع وذبائح وطقوس، وترفع الطلبة عن ابنائها جميعاً بلجاجة لِمَن “به كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان" يو١:٣ هو فقط الذي تضع به إيمانها ولا تضعه فى أفكار أو تدابير بشرية، إنّ مريم منذ البداية تعلم أنّ يسوع هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة." يو١٤:٦.
هذا الإيمان يتمّمه الرجاء المملوء بالإنتظار الواثق فالرّد الغير مشجِّع من المسيح لم يؤثّر فى رجائها وانتظارها وثقتها بعمله الإلهي وتدخّله العجائبي فكانت وصيّتها للخدم بأن يستعدوا للعمل بحسب ما يأمرهم هو ... مهما كان غريباً ... مهما كان غير مفهومٍ ... فكانت المعجزة الأولى... وتمجّد المسيح.
فرح الجميع فرحاً حقيقياً بينما هى حاضرة تطمئنّ أنّ الجميع قد نال من الخمر الجيّد، خمر خلاص المسيح ومازالت تفعل حتى يومنا هذا وإن كان كثيرين لا يعلمون أنهم قد نالوا تلك النعمة بفيض محبتها الأمومية وإيمانها العظيم ورجائها الذي لا يخيب.
"هُناكَ عِندَ صَليبِ يسوع، وقَفَت أُمُّه، وأُختُ أُمِّه مَريَمُ امرأَةُ كلُوبّا، ومَريَمُ المِجدَلِيَّة فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبِها التِّلميذُ الحَبيبُ إِلَيه.
فقالَ لأُمِّه: "أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُكِ ."
ثمَّ قالَ لِلتِّلميذ: "هذه أُمُّكَ."
ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه." يو١٩:۲٥-۲٧
في تلك اللحظات التي وصلت فيها مريم إلى ذروة الألم واخترق السيف قلب الأم بكل قسوة كانت مريم واقفة بحسب شهادة العيان ليوحنا الإنجيليّ، يُخبرنا أنها لم تنكسر أو تنهار ولم تفقد إيمانها أمام قسوة تجربة الصليب بل كانت واقفة تتجاوز الألم بالإيمان مقدّمة لله قلبها مذبحاً طاهراً لذبيحة إبنها الوحيد.
لقد صوّر الكثير من الفنانين العذراء تحت الصليب وكأنها منهارة أو تحتاج لِمَن يعينها لكى لا تسقط لكنّ الأصوب أنّ مَن حولها هم مَن كانوا يستندون إليها، يستندون إلى إيمانها وقبولها المطلق لمشيئة الآب.
إنّ مريم أمام الصليب حامل مخلصنا يجعلنا نعود لنقارن هذا المشهد بحواء الأولى أمام شجرة الحياة فنجد حواء الأولى تستجيب لغواية إبليس وتشك فى محبة ووصية الخالق الكريم الذي رأته بعينيها بل وتطمع لكي تصير مثل الله ولا تجد مانعاً من الإعجاب بجمال الثمرة وشهوتها فتتمادى فى الأمر حتى تأكل منها وتسقط.
فى المقابل نرى حواء الجديدة أمام شجرة الحياة الحقيقية وهي الصليب حامل مخلصنا ومريم واقفة أيضاً أمامها فى أسمى معاني للإيمان، فى تجرّد وقبول للألم وطاعة لمشيئة الآب دون شك أو تذمّر أو مطالبة بالإفراج عن إبنها البريء أو توجيه أي إتّهام لصالبيه !!
كلّها إيمان بأنّ المصلوب سيتمّم فيه كما أخبرها به ملاك البشارة "سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية." لو ١:٣٢-٣٣
ترفع قلبها بصلوات حارّة لأجل الصالبين والمصلوبين معه وكل ابنائها المزمع أن تصلهم رحمة الله وهي ذبيحة إبنها، هي الخمر الجيد ينتقل من جيل إلى جيل، فهل نتعجب من وصية المسيح الأخيرة لها بأن تعتني بأبنائها المؤمنين وللمؤمنين بأن يجعلوها أُمَّهُم؟
لقد بقيت مريم تسند الكنيسة الأولى بإيمانها بعد صعود المسيح وقبل حلول الروح القدس، فالمسيح غاب عن الأبصار والروح القدس لم يحلّ بعد لكنّ مريم حاضرة معلّمة للعبادة والصلاة والقداسة، وكنزاً ثميناً يحوي داخله سرّ المسيح وجواهر الفضائل والقداسة ولآلىء كلمة الله.
تعتني بالكنيسة الوليدة كما اعتنت سابقاً بالطفل الإلهى ومنذ ذلك الحين وهي تمارس واجبها الأمومي نحو الجميع، تُثبّتنا فى الإيمان، تُذكّرنا بكلمات المخلّص، تقودنا إليه، تدفعنا للأسرار المقدسة، تُعلّمنا الصلاة، تتواجد معنا وتُدبّر لنا أمورأً كثيرة جداً، تصنع المعجزات، تحُثّنا على العمل لنشر الملكوت وخلاص إخوتنا وتتضرّع من أجلنا فى كل حين أمام إبنها الإلهي.
فهل مازال هناك أحد يتساءل لماذا نقدّم لها كل هذا الحب ونكرمها كل هذا الإكرام؟
فلنرفع عيوننا إلى مريم أمّنا ونتأمّل ونتعلم منها الإيمان ونطوّبها على الدوام مع أليصابات:
موقع Zenit "فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ."لو١:٤٥