أؤمنُ باللهِ: خالق السماء والأرض، وخالق الإنسان «أضواء
قانون الإيمان الذي يبدأ بوصف الله كـ"آب قدير"، يضيف أنه "خالق السماء والأرض". ففي الحقيقة، نقرأ في أول آية الكتاب المقدس: "في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (تك 1، 1): إن الله هو مبدأ كل الأشياء وفي جمال الخليقة يتضح قدرة الله كأب محب.
فالله يَظهر كأب في الخليقة، لكونه مبدأ الحياة، ولأن فعل الخلق يُبيّن قدرته. إنه، كأب محب وقدير، يعتني بخليقته بمحبة وبأمانة لا يعتريهما النقصان أبدًا، كما تعلن تكراراً المزامير (راجع مز 57، 11؛ 108، 5؛ 36، 6).
هكذا، تصبح الخليقة المكان الذي فيه يمكن التعرّف على مقدرة الرّبّ وعلى صلاحه، وتصبح بالنسبة لنا، نحن المؤمنين، نداءً للإيمان لكي نعلن الله خالقًا. "بِالإِيمانِ نُدرِكُ أَنَّ العالَمِينَ أُنشِئَت بِكَلِمَةِ الله، حَتَّى إِنَّ ما يُرى يَأتي مِمَّا لا يُرى" (عب11 ، 3). يتطلب الإيمان إذا إدراك ما لا يُرى ومعرفة اقتفاء آثاره في العالم المرئي.
يقدر المؤمن قراءة كتاب الطبيعة العظيم وفهم لغته (راجع مز 19، 2-5)؛ إلا أن كلمة وحييه هي ضرورية، تبعث على الإيمان، لكي يصل الإنسان إلى الإدراك الكامل لحقيقة كون الله خالق وآب. ففي الكتاب المقدس يمكن للعقل البشري أن يجد، تحت نور الإيمان، المفتاح لفهم العالم.
يحتل، وبطريقة خاصة، الفصلُ الأول لسفر التكوين، مكاناً مميزاً بمقدمته الإبتهالية عن العمل الإلهي الخلّاق والذي يظهر على طول الأيام السبعة: فالله انتهى من عملية الخلق في ستة أيام وفي اليوم السابع، يوم السبت، أوقف كل عمل واستراح. يوم الراحة للجميع، ويوم الشَرِكة مع الله.
وهكذا، بهذا التصور، يقتادنا سفر التكوين إلى أن المقصد الأول لله كان إيجاد محبة تستجيب لمحبته. والمقصد الثاني كان بعد ذلك خلق العالم المادي لتوطين هذا الحب، وهذه المخلوقات التي، بحرية، تتجاوب معه.
إنها إذًا هيكلية تسمح بتكرار ببعض العبارات ذات المدلول. فلعدد ست مرات، على سبيل المثال، تكررت العبارة: " ورأَى اللهُ أَنَّ ذلك حَسَن" (الآيات 4. 10. 12. 18. 21. 25)، لكي ينتهي، في المرة السابعة، أي بعد خلق الإنسان: "رأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا" (آية 31). فكل ما صنعه الله هو جميل وصالح، مفعماً بالحكمة والمحبة؛ ففعل الله الخلّاق يحمل النظام، ويدخل بالتناغم، ويعطي الجمال.
يتضح من قصة التكوين أن الرّبّ قد خلق بـ"كلمته": نقرأ في النص لعشر مرات التعبير "قالَ الله" (الآيات 3. 6. 9. 11. 14. 20. 24. 26. 28. 29). إنه كلمة الله، اللوجوس، الذي هو أصل حقيقة الكون، وبقول "قال الله"، فكان، هو لإبراز القدرة المؤثرة للكلمة الإلهية. هكذا ينشد كاتب المزامير: "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَوات وبِروحِ فَمِه صُنعِ كلّ جَيشِها... إِنَّه قالَ فكان وأَمَرَ فوجِد" (مز33، 6. 9). فالحياة أشرقت، والعالم خرج للوجود، لأن كل شيء يطيع الكلمة الإلهية.
ولكن سؤالنا اليوم هو: هل مازال هناك معنى للتكلم مجددًا، في زمن العلم والتقنية، عن الخلق؟ وكيف يمكننا فهم ما يسرده سفر التكوين؟ إنّ الكتاب المقدس لا يريد أن يكون دليلاً للعلوم الطبيعة؛ ولكنه يريد أن يُفهمنا الحقيقة الأصيلة والعميقة للأشياء. فالحقيقة الأساسية التي يكشفها سفر التكوين هي أنّ العالم ليس مجرد تراكمٍ لطاقات متنافرة فيما بينها، وإنما يجد أساسه وثباته في اللوجوس، في حكمة الله الأبدية، التي لا تزال تحفظ إستمرار الكون.
هناك تدبير للعالم يتدفق من هذا العقل، من الروح الخالق. إنّ الإيمان بأن هذا هو قاعدة كل شيء، يُنير كل مناحي الوجود ويمنح الشجاعة لمواجهة مغامرة الحياة بثقة وبرجاء. ومن ثمَّ، يخبرنا الكتاب المقدس أنّ أصل الحياة، والعالم، وأصلنا ليس ثمرة لاعقلانية أو حاجة، ولكنه ثمرة عقل ومحبة وحريّة. من هذا يتضح الإختيار المزدوج: إمّا أن تكون الأولوية هي للاعقلانية وللحاجة، وإمّا للعقلانية وللحرية وللمحبة. نحن نؤمن بالإختيار الأخير.
أود أيضًا قول كلمة حول هدف الخليقة جمعاء: الرجل والمرأة، الكيان البشري، هو الوحيد "القادر أن يَعرفَ ويحبَّ خالقَه" (دستور عقائدي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 12). يتساءل كاتب المزامير، ناظراً للسماوات: "عِندَما أرى سَمَاواتِكَ صُنعَ أَصابِعِكَ والقَمَرَ والكَواكِبَ التي ثبتَّها. ما الإِنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه واْبنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟" (8، 4-5).
فالكائن البشري، المخلوق بمحبة من الله، هو صغير للغاية بمقارنته بضخامة الكون؛ بين حين وآخر، عند النظر بأعين مفتونة إلى مسافات الفضاء الشاسعة، ندرك نحن أيضا ضآلتنا. تقطن في الإنسان هذه المفارقة: ضآلتنا واضمحلالنا يتعايشان جانب الى جانب مع عظمة ما ابتغته لنا محبةُ الله الأبدية.
روايات الخلق المذكورة في سفر التكوين تدخلنا في إطار ما هو سريّ، لمساعدتنا على معرفة تدبير الله للإنسان. فهي، بادئ ذي بدء، تؤكد أنّ الله قد خلق الإنسان من تراب الأرض (راجع تك 2، 7). هذا يعني أننا لسنا الله، ولم نخلق أنفسَنا بأنفسِنا، فنحن تراب؛ ويعني أيضا أننا جئنا من الأرض الصالحة، من خلال صنيع الخالق الصالح.
إلى جانب هذا يمكننا إضافة حقيقة أخرى أساسية: جميع البشر هم تراب، بغضّ النظر عن الإختلافات الناتجة من الثقافة والتاريخ، وبغضّ النظر عن الإختلافات الإجتماعية، فنحن بشرية واحدة خلقها الله من نفس الأرض.
هنالك عنصر ثاني: إنّ الحياة البشرية قد ابتدأت لأنّ الله نفخ في الجسد المصنوع من الأرض نفخة حياة (راجع تك 2، 7). فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله (راجع تك 1، 26-27). ولهذا فجميعنا يحمل في داخله نفخة الحياة الإلهية وكل حياة بشرية – كما يقول لنا الكتاب المقدس- هي تحت الحماية الخاصة لله.
في هذا يكمن السرّ الأكثر عمقًا لحُرمة الكرامة الإنسانية ضد كل تجربة تحاول تقييم الشخص بناء على معايير منفعية وسلطوية. فكونه على صورة ومثال الله يشير أيضًا إلى أنّ الإنسان ليس منغلقا على ذاته، بل أن له مرجعية أساسية في الله.
نجد في الفصل الأول لسفر التكوين تشبّهَين معبّرَين: جَنَّة عَدْنٍ حيث شجرة معرفة الخير والشر والحيِّة (راجع تك 2، 15-17؛ 3، 1-5). يخبرنا سفر التكوين أن جَنَّة عَدْن، المكان الذي وضعنا الله فيه، لم يكن غابة موحشة، بل مكانا يمنح المأكل والعون والحماية؛ يجب على الإنسان أن يُقر بأنّ الكون ليس ملكيّة له يحق له نهبها واستغلالها، بل عطية من الخالق، وعلامة لصلاحه الخلاصي، عطية عليه تنميتها وحمايتها، وإنماءها وتطويرها من خلال الإحترام، والتناغم، وباتّباع الإيقاعات والمنطق، وفقا لتَدبير الله (راجع تك 2، 8-15).
ثم، الحيّة هي صورة تأتي من العبادات الشرقية عن الخصب، والتي كانت تجتذب إسرائيل وتمثّل بالنسبة له تجربة مستمرة لنقض عهده السري مع الله. والكتاب المقدس، على ضوء هذا، يقدم تجربة آدم وحواء على أنها نواة للتجربة والخطيئة. ماذا تقول حقًا الحيِّة؟ إنها لا تنكر الله، بل تطرح بدهاء سؤالا: "أَيقينًا قالَ الله: لا تأكُلا مِن جَميعِ أَشْجارِ الجَنَّة؟" (تك 3، 1).
وقد أدخلت الحيِّةُ، بهذه الطريقة، الشكَ في العهد مع الله وكأنه قيد، يسلب الحرية ويَحرم من الأُمور الجميلة والنفيسة في الحياة. فتتحول التجربة إلى محاولة لبناء العالم الذي نحيا فيه منفردين، ولرفض كل حدود الكائن المخلوق، حدود الخير والشر، والأخلاق؛ الاستقلال من المحبة الخالقة لله لاعتبارها عبئاً يجب التحرر منه. هذا هو دائما لُب التجربة.
إلا أنه عندما تُزيّف العلاقة مع الله، بأكذوبة، بوضع الذات مكانه، تنحرف كل العلاقات الأخرى. ومن ثمَّ يصبح الآخر منافسًا، وتهديدًا: فآدم، بعد السقوط في التجربة، يتهم فوراً حواء (راجع تك 3، 12)؛ ويختبئ الإثنان من أمام نظر الله، اللذان كانا يتحدثان معه بمودّة سابقا (راجع 3، 8-10)؛ والعالم لم يعد بعد جنّة عدن حيث العيش بتناغم، بل مكانا يسعى لاستخدامه، مكانا ينبت وشَوكًا وحَسَكًا (راجع 3، 14-19)؛ وقد دخل إلى قلب الإنسان الحسدُ والكراهيةُ نحو الآخر: نموذج على ذلك هو قاييِن الذي قتل أخيه هابيل (راجع 4، 3-9).
فبالسير عكس الخالق، في الحقيقة الإنسان يسير عكس نفسه، وينكر أصله وبالتالي حقيقته؛ وهكذا يدخل الشر إلى العالم، بنتائجه المؤلمة من آلام وموت. وهكذا عندما خلق الله العالم كان حسن، بل وحسن جداً، ولكن بعد اختيار الانسان الحر اتّباع الكذبة ضد الحقيقة، دخل الشرّ إلى العالم.
من قصة الخلق، أودُّ توضيح درساًٍ أخيراً: الخطيئةُ تنجب خطيئةً وكل خطايا التاريخ هي متصلة فيما بينها. يدفعنا هذا المنظور إلى التكلم عما يُسمى "الخطيئة الأصلية". ما يعني هذا الواقع، صعب الفهم؟ في هذا الصدد أرغب فقط في إعطاء بعض العناصر.
يجب علينا قبل كل شيء إدراك أنه لا يوجد إنسان منغلق على ذاته، لا أحد يستطيع العيش من ذاته ولذاته؛ فنحن ننال الحياة من الآخر، ليس فقط في لحظة الميلاد، ولكن في كل يوم. فالإنسان هو علاقة: فأنا أحقق ذاتي فقط في الأنت ومن خلال الأنت، وعبر علاقة المحبة مع الأنت الإلهي ومع الأنت الخاص بالآخرين.
صحيح، الخطيئة هي الإخلال أو تدمير العلاقة مع الله، فجوهره هو هذا: تدمير العلاقة مع الله، تلك العلاقة المركزية، بوضع الذات مكان الله. يؤكد كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية أنّ الإنسان بخطيئته الأولى: "قد فضّل نفسه على الله، وبذلك عينه حَقَّرَ الله: اختار ذاته على الله، ضد مقتضيات كونه خليقة، ومن ثَمَّ ضد صالحه الخاص" (عدد 398).
فباهتزاز العلاقة الأساسية، تخلخلت وتدمرت أيضا أعمدة بقية العلاقات الأخرى، فالخطيئة تخرب العلاقات، وهكذا تُفسد كل شيء؛ نحن لسنا إلا "علاقات". والآن، إذا كان بنيان العلاقات البشرية قد أصيب في مهده، فكل إنسان يدخل إلى عالم موصوم باضطراب العلاقات هذا، يدخل في عالم زعزعته الخطيئة، وهذا يمسه شخصياً؛ فالخطيئة الأولى قد انتقل أثرها وجرحت الطبيعة البشرية ([إنها خطيئة «موروثة» لا «مُرتكبة»، حالة لا فعل] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 404-406).
إنّ الإنسان بمفرده ووحيداً لا يستطيع الخروج من هذه الحالة، لا يمكنه أن يخلّص ذاته بذاته؛ فقط الخالق يستطيع بنفسه إعادة العلاقات لحالتها الأولى الصحيحة. فقط مَن ابتعدنا عنه يستطيع أن يأتي إلينا ويمنحنا العون بمحبة، وبهذا تتمكن العلاقات الصحيحة من إعادة الوثاق مجدداً فيما بينها.
إنّ هذا قد تمّ في يسوع المسيح، الذي تصرّف تماماً عكس آدم، كما يصف نشيد الفصل الثاني من رسالة القديس بولس إلى كنيسة أفسس (أف2، 5-11):" ففي حين تنكّر آدم لكونه خليقة وأراد أن يضع نفسه مكان الله، يسوع، إبن الله، عبر علاقة كاملة البنَويِّة مع الآب، أخلى ذاته، متخذاً صورة العبد، وسار على درب المحبة بتواضع حتى الصليب، ليداوي العلاقات مع الله. وهكذا أصبح صليب المسيح شجرة الحياة الجديدة."
أخواتي وإخوتي الأعزّاء، أن نحيا بالإيمان يعني أن نعترف بعظمة الله ونقبل ضعفنا، وحالتنا كخليقة تاركين الرّبّ يملأنا بمحبته، وهكذا تنمو عظمتنا الحقيقية. إنّ الشّر، بتبعيّاته من ألم ومعاناة، هو سرّ لا يمكن إضاءته إلا بنور الإيمان، الذي يعطينا اليقين بأنه يمكننا أن نتحرر من سلطانه: اليقين بأنّ خلق الإنسان هو لأمر جيد.
البابا بنديكتس السادس عشر - إذاعة الفاتيكان2013