آدم، أين أنت؟ أين أخوك؟ «أضواء

إنّ أوّل كلمة وجّهها الله إلى آدم بعد الخطيئة الأصليّة كانت "آدم، أين أنت"؟ وفقد آدم توازنه بعد أن ضاعت مكانته بين الخليقة عندما اعتقد أنّه سيصبح قويًّا، ويستطيع أن يتحكّم بكلّ شيء ويصبح بالتالي إلهًا.

أخطأ الإنسان وانكسر التناغم وتبدّلت العلاقة مع الآخر، الذي لم يعد أخًا ينبغي لي أن أحبّه بل بات شخصًا مزعجًا. ثمّ يطرح الله السؤال الثاني "قايين أين أخوك؟".

لكي يصبح هذا الحلم قويًّا وكبيرًا مثل الله، أو حتّى مكان الله، ولّد سلسلة من الأخطاء هي سلسلة موت، وبابًا لسفك دم الأخ.

يتردّد هذان السؤالان اليوم في أذهاننا بشدّة. فقد الكثير توجّههم في الحياة وأنا منهم، فبتنا لا نتنبّه الى العالم الذي نعيش فيه، ولا نحافظ على ما خلقه الله للجميع، ولم نعد قادرين على الحفاظ على بعضنا بعضًا. وعندما يبلغ هذا الخلل كلّ أبعاده نصل الى مأساة شبيهة بتلك التي نشاهدها اليوم.

قال الربّ " أين أخاك"؟ ودم أخوك يصرخ إليّ. هذا سؤال موجّه لي ولك ولكلّ واحدٍ منّا. لقد حاول إخوتنا وأخواتنا الخروج من أوضاع صعبة بحثًا عن شيء من الطمأنينة والسلام، كانوا يبحثون عن مكان أفضل لهم ولعائلاتهم، لكنهّم وجدوا الموت. كم مرّة لم يجد فيها هؤلاء الأشخاص التفاهم والتضامن وحسن الضيافة؟ وصراخهم يصل إلى الله. لقد استمعت مؤخّرًا إلى ما قاله أحد المهاجرين الذي أكّد أنّه كان ضحّية مَن يتاجرون بالكائنات البشريّة، ومَن يستغلّون فقر الآخرين. هؤلاء الأشخاص الذين يجدون في فقر الآخرين مصدر ربح لهم. كم المعاناة كبيرة! إذ إنّ كثيرين لم يستطيعوا الوصول إلى غايتهم.

"أين أخاك" من المسؤول عن هذا الدم المسفوك؟ هنالك في الأدب الإسباني كوميديا "لوب دو فاغا" تخبر كيف أنّ سكّان مدينة "فوِنتِه أوفيخونا" قتلوا الحاكم لأنّه كان طاغيًا وتستّروا على القاتل. وعندما سأل قاضي الملك "مَن قتل الحاكم" أجاب الجميع " الكلّ وليس أحد"! اليوم أيضًا يبرز هذا السؤال بقوّة: من هو المسؤول عن دم هؤلاء الإخوة والأخوات؟ لا أحد! كلّ واحد منّا يقول إنّني غير مسؤول، فأنا لست منهم إنّهم الآخرون. ولكن الله يسأل كلّ واحد منّا: "أين دم أخيك الذي يصرخ إليّ

لا أحد في العالم كلّه يشعر اليوم بأنّه مسؤول عمّا يجري. لقد فقدنا حسّ المسؤوليّة الأخويّة، وصرنا على غرار الكاهن المرائيّ الذي يتحدّث عنه السيّد المسيح في مثل السامريّ الصالح. ننظر الى الأخ الملقى على الأرض بين الحياة والموت ونكمل الطريق ونكتفي بالقول في داخلنا " إنّه مسكين!" ولكنّ هذه ليست مسؤوليّتنا، ونريح بذلك ضميرنا إذ لم نتعدّى القوانين.

إنّ ثقافة الرخاء، التي تحملنا على التفكير بأنفسنا وحسب، تجعلنا نفقد المشاعر إزاء صراخ الآخرين، تجعلنا نعيش في فقاعات من الصابون، التي هي جميلة، لكنّها ليست أيّ شيء، إنّها وهم ما هو غير نافع ومؤقّت الذي يحمل على اللامبالاة بالآخر، بل على عولمة اللامبالاة.

في عالم العولمة هذا، وقعنا في عولمة اللامبالاة. لقد اعتدنا على معاناة الآخرين، إذ باتت لا تعنينا ولا تهمنّا. تعود الى أذهاننا صورة "الشخص النكرة أو غير المسمّى لمانزوني". عولمة اللامبالاة جعلتنا كلّنا "نكرة"، مسؤولين من دون اسم ولا وجه.

لقد طرح الله في بداية تاريخ البشريّة سؤالين ولا يزال يطرحهما علينا اليوم: "آدم أين أنت؟ أين أخوك؟ وأريد أن نطرح على ذواتنا سؤالاً ثالثاً: مَن منّا بكى؟ مَن بكى على موت  هؤلاء الإخوة والأخوات؟على الأمهات اللواتي يحملن أولادهنّ؟ على هؤلاء الرجال الذين يبحثون عن لقمة عيش لعائلتهم؟ لقد أصبحنا في مجتمع نسي اختبار البكاء والتألّم معًا. لقد نزعت منّا عولمة اللامبالاة قدرتنا على البكاء.

في الإنجيل سمعنا صراخ وعويل وبكاء وشكوى " راحيل التي تبكي بنيها... لأنّهم ما عادوا في الوجود". لقد زرع هيرودس الموت ليدافع عن راحته، عن فقاعة الصابون خاصّته. ولا يزال هذا الفعل يتكرّر. لنطلب من المسيح أن يمحو ما بقي من هيرودوس في قلوبنا، ولنسأله نعمة البكاء على لامبالاتنا وعلى القساوة الموجودة في قلوبنا وفي العالم، وعلى هؤلاء الذين يأخذون قرارات اجتماعيّة واقتصاديّة تؤدّي إلى مآسٍ كتلك التي نشاهدها اليوم.

يا ربّ، نسألك أن تغفر لنا لامبالاتنا تجاه الإخوة والأخوات. وأن تغفر لكلّ مَن انغلق على أنانيّته فتخدّر قلبه، ولكلّ مَن أدّت قراراتهم إلى خلق مأساة في العالم. سامحنا يا رب.

لنسمع أيضًا اليوم أسئلتك الموجّهة إلينا: "آدم أين أنت؟" "أين أخوك"؟

عظة البابا فرنسيس في لامبوديسا