بَيْنَ الأرْضِ والسَّماء «القوت اليومي
إنَّا لا نُبْصِرُ بِعَينِ الجَسَدِ عالَمَ الرُّوح، فإنَّما النَّظَرُ الحَقيقيُّ مِنْ خَواصِّ النَّفس، فتَنْظُرُ كُلَّ شَيْءٍ على حَقيقتِهِ بِقُوَّةِ المَعْرِفَة. أمَّا إذا نَظَرَ الجَسَدُ بِغَيْرِ عَقْلٍ فكالبَهيمَةِ يَنْظُر. أمَّا النَّفْسُ فتَنْظُرُ مُجَرَّدَةً عَنِ الجَسَدِ نَظَراً روحانيّاً. ليْسَ العَقْلُ والنَّفْسُ بِمُقيَّدَين. فالنَّفْس، وإنْ ساكِنَةً في الجَسَد، تَمْتَدُّ مَعْرِفَتُها الى كُلِّ شَيْء. بِرُغْمِ ارْتِباطِها بالجَسَد، تَبْقى مُتَحَرِّرَةً مِنْهُ. وَفرَحُها يَكونُ أبَداً مُنْفَصِلاً عَنْهُ، وَعلى وُجودِها مَعَهُ في الدّنيا، لا تَفْتَأُ يَدْفَعُها المَيلُ إلى العَلاءِ حَيْثُ وَطَنُها الحَقيقيّ. إنَّها وَلو كانَتْ مَحْبوسَةً في هذا العالم، تُحْسَبُ مِنْ أهْلِ السَّماء. وَلو كانَتْ تَحيا مَعَ التُّرابيّين، إلّا أنَّها ذاتُ حَياةٍ خالِدَةٍ مَعَ الرُّوحانيّين، تُمَجِّدُ مَعَهُم مُبْدِئَ الكُلّ.
فاجْمَعْ نَفْسَكَ يا أخي، واحْرَصْ على أنْ يَكونَ مَسْكَنُكَ عِنْدَ سَيّدِكَ. إرْفَعْ جَناحَيكَ عَنِ الأرْضِ وَتَطَلَّع الى الوَطَنِ الذي اسْتعْدَدْتَ لَهُ، فهُناكَ الخالِقُ يَشاءُ سُكْناكَ الدَّائِمَة.
هُوَ مُشْتاقٌ إليك، عَطْشانُ الى رُؤيَتِكَ، هَلَّا تَخْرُجُ تُكَلِّمُ خالِقكَ ! إنَّ حُبَّهُ لِكَلامِكَ، حَديثكَ إليهِ أفضَلُ عِنْدَهُ مِنَ المَراتِبِ العاليَة. شَوْقُهُ الى صَوْتِكَ أعْظَمُ عِنْدَهُ مِنْ ضَجَّةِ الرُوحانيِّين، حُبُّهُ لِلتُّرابيِّ أفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ مَجْمَعِ النُّورانيِّين، وَفَرَحُهُ بِصَوْتِكَ وَكلامِكَ مَعَهُ أكْرَمُ في عَيْنَيهِ مِنْ بَهاءِ السَّرافين، وَحُبُّهُ لِصورَةِ الإنْسانِ أفْضَلُ لَدَيْهِ مِنْ شُعاعِ السَّماويّين، وَسَماجَةُ مَخْلوقِهِ آدَمَ أفضَلُ مِنْ جَميعِ المَخْلوقات. هُوَ مِنْ أجْلِ مَحَبَّتِهِ لَكَ جاءَ يَطْلُبُكَ، فاخْرُجْ أنْتَ في طَلَبِهِ. هُوَ انْحَدَرَ الى حَقارَتِكَ لِيَرْفَعَكَ الى عُلُوِّهِ. أظْهَرَ ذاتَهُ لِلأرْضِيّينَ ليَجْعَلَكَ مَعَ السَّماويّين. بالمَحَبَّةِ التي بِها أتى إليك، أنْتَ امْضِ إليه !
مارِ إسحقَ السُّريانيّ (أواخر القرن السابع)