خطاب البابا فرنسيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة «متفرقات





خطاب البابا فرنسيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة



في إطار زيارته إلى الولايات المتحدة توجّه البابا فرنسيس يوم الجمعة إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك حيث ألقى خطابا أمام الجمعيّة العامّة للمنظّمة الأمميّة قال فيه:


السيّد الرّئيس، السيّدات والسّادة، صباح الخير!


مرّة أخرى، واتّباعًا لتقليد يُشرّفني، دعا الأمين العامّ للأمم المتحدة البابا ليوجّه كلمة لجمعيّة الأمم الموقَّرة هذه. باسمي وباسم الجماعة الكاثوليكيّة بأسرها، أرغب بأن أُعبّر لكم أيّها السيّد بان كي مون عن الامتنان الصّادق والقلبيّ؛ كما وأشكركم على كلماتكم اللّطيفة. أحيّي أيضًا رؤساء الدّول والحكومات الحاضرين، السّفراء والدبلوماسيّين والموظفين السياسيّين والتقنيّين الذين يرافقونهم وموظّفي الأمم المتّحدة المُلتزمين في هذه الجلسة السّبعين للجمعيّة العامّة وموظفيّ كلّ برامج ووكالات عائلة منظّمة الأمم المتحدة وجميع الذين بشكل أو بآخر يُشاركون في هذا الإجتماع. من خلالكم أحيّي أيضًا جميع الأمم المُمثّلة في هذا اللّقاء. شكرًا على جهود الجميع وجهود كلّ فرد من أجل خير البشريّة.


هذه هي المرّة الخامسة التي يزور فيها بابا الأمم المتحدة. لقد زاروها أسلافي بولس السّادس عام 1965، يوحنّا بولس الثاني عام 1979 وعام 1995 وسلفي الأخير، البابا الفخري بندكتس السادس عشر عام 2008. جميع هؤلاء لم يوفروا عبارات الإمتنان للمنظمة، معتبرينها الجواب القانونيّ والسياسيّ المناسب للمرحلة التاريخيّة، المتّسمة بتخطّي المسافات والحدود بفضل التكنولوجيا وكما هو بديهيّ لأيّ حدود طبيعيّة للتّأكيد على السّلطة.


جواب لا يُمكن الإستغناء عنه، بما أنّ السّلطة التكنولوجيّة، عندما تقع بأيدي إيديولوجيّات قوميّة أو كونيّة زائفة، تكون قادرة على التّسبّب بفظائع رهيبة. لا يمكنني إلّا أن أضمّ صوتي إلى امتنان أسلافي، لأعيد التّأكيد على الأهميّة التي تعترف بها الكنيسة الكاثوليكيّة لهذه المؤسّسة والرّجاء الذي تضعه في نشاطاتها.


إنّ تاريخ الجماعة المنظمة من الدول والمُمثلة بالأمم المتحدة التي تحتفل في هذه الأيّام بعيدها السّبعين، هو تاريخ نجاحات مشتركة مهمّة في مرحلة تسارع أحداث غير اعتيادي. لن أدّعي بأن أشمل كلّ شيء، لكن يمكن ذكر سَنِّ  القانون الدولي وتطوّره، وضع الشّرعة الدّوليّة لحقوق الإنسان، والارتقاء بالقانون الإنسانيّ نحو الكمال، وحلّ العديد من الصّراعات وعمليّات السّلام والمصالحة، والعديد من الإنجازات الأخرى في جميع قطاعات الإنعكاسات الدوليّة للنشاطات البشريّة.


جميع هذه الإنجازات هي أنوار تواجه ظلمة الفوضى التي تسبّبها الطموحات الخارجة عن السيطرة والأنانيّة الجماعيّة. من المؤكّد أنّه، بالرّغم من أنّ هناك مشاكل خطيرة غير محلولة لكن من الواضح أنّه إن غاب كلّ ذاك النشاط الدولي، لكان من الممكن ألا تنجو البشريّة من الإستعمال غير المراقب لإمكانياتها. يمثل كلّ من هذه التطورات السياسيّة والقانونيّة والتقنيّة مسيرة تطبيق مُثُل الأخوّة البشريّة ووسيلة لتحقيقها بشكل أكبر.


لذلك أُشيد بجميع الرّجال والنّساء الذين خدموا بإخلاص وتضحية البشريّة بأسرها خلال هذه السّنوات السّبعين. بشكلٍ خاصّ، أريد أن أذكر اليوم جميع الذين بذلوا حياتهم من أجل السّلام والمُصالحة بين الشعوب، إنطلاقـًا من داغ هامارسكيولد وصولاً إلى العديد من الموظّفين من مختلف المراتب الذين قُتلوا في المهمّات الإنسانيّة للسّلام والمصالحة.


إنّ خبرة هذه السّنوات السبعين، بغضّ النّظر عن كلّ ما تمَّ إنجازه، تُُظهر أن الإصلاح والتأقلم مع الأوقات هما ضرورييان على الدّوام، وفي التقدُّم نحو الهدف النهائيّ لمنح جميع البلدان، بدون استثناء، مشاركة وتأثيرًا حقيقيًّا وعادلاً في القرارات. هذه الضّرورة لمساواة أكبر، تصلح بشكلٍ خاصّ للهيئات ذوي القُدرات التنفيذيّة الفعّالة، كمجلس الأمن والمنظمات الماليّة والمجموعات أو الآليات التي أُنشأت خصّيصًا لمواجهة الأزمات الاقتصاديّة.


هذا الأمر سيساعد على الحدّ من جميع أشكال الإستغلال أو الرّبا لاسيّما تُجاه البلدان النامية. ينبغي على المنظّمات الماليّة الدوليّة أن تسهر على التنمية المستدامة للبلدان لتجنيبها من الإستعباد لأنظمة القروض، بدلاً من أن تعزّز التطور، تستعبد الشعوب لآليات فقر وتهميش وتبعيّة أكبر.


إنّ مهمّة الأمم المتحدة، وبدءًا من الديباجة والمواد الأولى لميثاقها التأسيسيّ، يُمكن رؤيتها تطوّرًا وتعزيزًا لتفوّق القانون، علمًا بأنّ العدالة هي مستلزم ضروريّ لتحقيق مثال الأخوّة الشّاملة.


في هذا الإطار، من المناسب التّذكير بأنّ الحد من السّلطة هو فكرة مُستترة في مبدأ القانون. أن نعطي كلّ فرد ما هو له، بحسب التّعريف التقليديّ للعدالة، يعني بأنّه ما من فرد أو مجموعة بشريّة يمكن اعتبارها قديرة ويُسمح لها أن تدوس كرامة وحقوق الأشخاص الآخرين أو المجموعات الاجتماعيّة.


إن توزيع السّلطة (السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والتكنولوجيّة...) بين الأطراف المُتعدِّدة وخلق نظام قانونيّ لتنظيم المُطالبة بالحقوق والمصالح، يحقّق الحدّ من السّلطة. واليوم، يقدّم لنا المشهد العالميّ بالتالي، العديد من الحقوق المزيّفة و – في الوقت عينه – قطاعات شاسعة دون حماية، ضحايا لتطبيق سيّئ للسّلطة: البيئة الطبيعيّة والعالم الشّاسع لنساءٍ ورجالٍ مهمّشين. قطاعان متّحدان فيما بينهما حوّلتهما العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة الشّائعة إلى أجزاء هشّة من الواقع. لذلك من الأهميّة بمكان التأكيد بقوّة على حقوقهم، من خلال تعزيز حماية البيئة ووضع حدّ ٍ للإقصاء.


ينبغي التأكيد أوّلاً على وجود "حقّ واقعيّ للبيئة" لسبب مزدوج. أوّلاً لأنّنا وكوننا كائنات بشريّة نشكِّل جزءًا من البيئة. نعيش في شركة معها، لأنّ البيئة بحدّ ذاتها تشمل حدودًا أخلاقيّة ينبغي على العمل البشريّ أن يعترف بها ويحترمها. إنّ الإنسان، حتّى عندما يملك "قدرات لا سابق لها، تظهر فرادة تتخطّى الإطار الجسديّ والبيولوجيّ" (كُن مسبّحًا، 81)، هو في الوقت عينه جزء من هذه البيئة. يملك جسدًا مكوّنًا من عناصر فيزيائيّة وكيميائيّة وبيولوجيّة ويمكنه أن يبقى حيًّا ويتطوّر فقط إن كانت البيئة الإيكولوجيّة ملائمة. وبالتالي كلّ أذى ضدّ البيئة هو أذى ضدّ البشريّة.


ثانيًا لأنّ كلّ خليقة، ولاسيّما الكائنات الحيّة، تحمل قيمة في ذاتها، قيمة وجود وحياة وجمال واعتماد متبادل مع الخلائق الأخرى. نحن المسيحيّين، بالإضافة إلى الدّيانات التوحيديّة الأُخرى، نؤمن بأنّ الكون يأتي من قرار حبّ ٍ للخالق الذي يسمح للإنسان بأن يستعمل الخليقة باحترام من أجل خير أترابه ومجد الخالق وإنّما دون أن يُسيء استعمالها أو أن يُسمح له بتدميرها. إنّ البيئة بالنسبة إلى جميع المعتقدات الدّينية هي خير أساسيّ (راجع المرجع نفسه، 81).


إنّ سوء استعمال البيئة وتدميرها هما، في الوقت عينه، مُرتبطان في عمليّة تهميش لا يُمكن إيقافها. في الواقع، إنّ الرّغبة الأنانيّة والتي لا تعرف الحدود للسّلطة والرفاهيّة الماديّة، تقود إلى سوء استعمال للوسائل الماديّة المتوفّرة كما إلى إقصاء الضّعفاء وحامليّ الإعاقات لكونهم يملكون قدرات مختلفة (المعوّقين)، إمّا لأنّهم لا يملكون المعرفة والأدوات التقنيّة المُناسِبة أو لأنّهم يملكون قدرة غير كافية لاتّخاذ القرارات السياسيّة.


إنّ الإقصاء الإقتصاديّ والإجتماعيّ هو رفضٌ كامل للأخوّة البشريّة وتعدّ ٍ على حقوق الإنسان والبيئة. فالأشّد فقرًا هم الذين يتألّمون أكثر بسبب هذه الاعتداءات لسبب ثلاثيّ ٍ خطير: يتمُّ إقصاؤهم من قبل المجتمع، هم في الوقت عينه مُجبرون على العيش على ما يفضل عن الآخرين وعليهم أن يعانوا ظُلمًا تبعات سوء استعمال البيئة. هذه الظواهر تُشكّل اليوم "ثقافة الإقصاء" المُنتشرة والمُتجذّرة بلا وعي.


إنّ مأساويّة كلّ هذا الوضع من الإقصاء وعدم المساواة، مع تبعاته الواضحة، يقودني مع الشّعب المسيحيّ كلّه وكثيرين آخرين، لأدرك أيضًا مسؤوليّتي الكبيرة في هذا الصدّد، ولذا أرفع صوتي، مع صوت جميع الذين يتطلّعون إلى حلول عاجلة وفعّالة. إنّ تبنّي "أجندة 2030 للتنمية المُستدامة" خلال القمّة العالميّة التي ستبدأ اليوم، هي علامة رجاء هامّة. آمل أيضًا أن يتوصّل مؤتمر باريس حول التّغيير المناخيّ إلى اتفاقيات جوهريّة وفعّالة.


مع ذلك، إن الإلتزامات المتّخذة علنًا هي غير كافية حتى عندما تشكّل خطوة ضروريّة باتّجاه حلّ المشاكل. إنّ التّعريف التقليديّ للعدالة والذي أشرت إليه سابقـًا يتضمّن كعنصر جوهريّ إرادة ثابتة ودائمة: Iustitia est constans et perpetua voluntas ius suum cuique tribuendi.


إنّ العالم يطلب بقوّة من جميع الحُكّام إرادة فعليّة، عمليّة، ثابتة، مكوّنة من خطوات ملموسة وإجراءات فوريّة للحفاظ على البيئة الطبيعيّة وتحسينها وللتغلّب بأسرع وقت مُمكن على ظاهرة الإقصاء الإجتماعيّ والإقتصاديّ، مع تبعاتها الأليمة، الإتجار بالكائنات البشريّة، الإتجار بالأعضاء والأنسجة البشريّة، الإستغلال الجنسيّ للأطفال، العمل الإستعباديّ بما في ذلك الدّعارة، الإتجار بالمخدرات والأسلحة، الإرهاب والجريمة الدوليّة المنظمة. ونظرًا للحجم الكبير لهذه الأوضاع وعدد الأرواح البريئة، ينبغي تحاشي كلّ تجربة وقوع في اسميّة خطابيّة مع تأثير مهدئ على الضمائر. علينا التنبّه لأن تكون مؤسّساتنا فعّالة حقـًا في مكافحة جميع هذه الآفات.


يتطلّب تعدّد المشاكل وتعقيدها استخدام وسائل تقنيّة للقياس، غير أنّ ذلك يتضمّن خطرًا مزدوجًا: الاقتصار على المُمارسة البيروقراطيّة في كتابة لوائح طويلة من النوايا الحسنة ـ مقاصد، أهداف ومؤشرات إحصائيّة ـ أو الاعتقاد بأنّ حلاًّ واحدًا نظريًّا واستنتاجيًّا سيقدّم جوابًا على كلّ التحديّات. لا ينبغي أن يغيب عن البال، وفي أيّة لحظة، أنّ العمل السياسيّ والإقتصاديّ، هو فعّال فقط عندما يُفهم عملًا متعقّلًا، يقوده مفهوم ثابت للعدالة ويأخذ دائمًا في الاعتبار أنّه، قبل وأبعد من الخطط والبرامج، هناك نساء ورجال واقعيون، مُتساوون مع الحكام، يعيشون، يكافحون ويعانون، ويجدون أنفسهم مرّات كثيرة مُجبرين على العيش في فقر، محرومين من أي حقّ.

وكي يتمكّن هؤلاء الرّجال والنساء الواقعيون من التخلّص من الفقر المدقع، ينبغي أن يُتاح لهم أن يكونوا روّادًا جديرين لمصيرهم.


إنّ التنمية البشريّة المتكاملة والممارسة الكاملة للكرامة البشريّة لا يمكن فرضهما. ينبغي أن يتمّ بناؤهما وتحقيقهما من قبل كلّ واحد، كلّ عائلة، باتّحاد مع باقي الكائنات البشريّة وفي علاقة صحيحة مع كلّ البيئات التي ينمو فيها النشاط الاجتماعيّ الإنسانيّ ـ أصدقاء، جماعات، قرى وبلديّات، مدارس، شركات ونقابات، أقاليم، أمم، إلخ. إنّ ذلك يفترض ويقتضي الحقّ في التّعليم وأيضًا للطفلات (المستبعَدات في بعض الأماكن). الحقّ في التّعليم الذي يُضمن بالدرجة الأولى من خلال احترام وتعزيز الحقّ الأوّليّ للعائلات في التّربية وحقّ الكنائس وباقي الهيئات الإجتماعيّة في أن تدعم وتتعاون مع العائلات في تربية بناتها وأبنائها. إنّ التربية المفهومة على هذا النّحو، هي القاعدة لتحقيق أجندة 2030 ولإصلاح البيئة.


في الوقت نفسه، ينبغي على الحُكّام أن يفعلوا كلّ ما يُمكن كي يتمكّن الجميع من الحصول على الحدِّ الأدنى الماديّ والروحيّ لجعل كرامتهم فعليّة ولتكوين عائلة وإعالتها، والتي هي الخليّة الأولى لأيّ نموّ اجتماعيّ، وهذا الحدّ الأدنى المُطلق، له ثلاثة أسماء على المُستوى الماديّ: مسكن، عمل وأرض؛ وله اسم على المُستوى الرّوحيّ: حريّة الرّوح والتي تتضمّن الحرّية الدّينيّة، الحقّ في التّعليم وباقي الحقوق المدنيّة.


ولهذه الأسباب جميعًا، فإن المقياس والمؤشر الأكثر سهولة وملاءمة لتحقيق الأجندة الجديدة للتنمية سيكون الحصول الفعليّ، العمليّ والفوريّ، للجميع، على الخيور الماديّة والروحيّة الضروريّة: مسكن خاص، عمل لائق مقابل أجر ملائم، غذاء كاف ومياه الشّرب؛ الحريّة الدينيّة، وبشكلٍ عام، حريّة الرّوح والتربية. وفي الوقت نفسه، إنّ لركائز التنمية البشريّة المُتكاملة هذه أساسًا مشتركًا هو الحقّ في الحياة، وبمعنى أشمل أيضًا، ما يُمكن أن نسمّيه الحقّ في وجود الطبيعة البشريّة نفسها.


إنّ الأزمة الإيكولوجيّة، وإضافة إلى تدمير جزء كبير من التنوّع البيولوجيّ، قد تعرّض للخطر وجود الجنس البشريّ. إنّ العواقب الوخيمة لإدارة سيّئة غير مسؤولة للاقتصاد العالميّ، يقودها فقط الطّمع في الرّبح والسّلطة، ينبغي أن تشكّل نداءً من أجل تأمّل جادّ حول الإنسان: "الإنسان لا يخلق نفسه. إنّه روح وإرادة، ولكنّه أيضا طبيعة" (بندكتس السادس عشر، خطاب أمام برلمان جمهورية ألمانيا الاتّحاديّة، 22 أيلول سبتمبر 2011، المذكور في الرّسالة العامّة كن مسبَّحًا، 6).


إنّ الخليقة تجد نفسها معرّضة للخطر "في كلّ مرّة يكون لنا فيها السّلطة النهائيّة... إنّ تبديد الخليقة يبدأ عندما لا نعترف بوجود أيّة سُلطة أعلى منّا، بل ولا نرى سوى أنفسنا" (لقاء مع كهنة أبرشيّة بولزانو ـ بريسانوني، 6 آب أغسطس 2008، المذكور في المرجع نفسه). ولهذا، فإنّ حماية البيئة ومُكافحة الإقصاء يتطلّبان الإعتراف بشريعة أخلاقيّة محفورة في الطبيعة البشريّة نفسها والتي تتضمّن التّمييز الطبيعيّ الرّجل من المرأة (راجع الرسالة العامة كن مسبَّحًا، 155) والإحترام المُطلق للحياة في جميع مراحلها وأبعادها (راجع المرجع نفسه، 123؛ 136).


دون الإعتراف ببعض الحدود الأخلاقيّة الطبيعية التي لا يُمكن تخطّيها ودون التّطبيق الفوريّ لركائز التنمية البشريّة المتكاملة هذه، فإن مثال "أن ننقذ الأجيال المُقبلة من ويلات الحرب" (ميثاق الأمم المتحدة، الديباجة) و"أن ندفع بالرُّقيّ الإجتماعيّ قدمًا، ونرفع مستوى الحياة في جوّ من الحريّة أفسح" (المرجع نفسه)، معرّض لخطر أن يصبح سرابًا لا يُمكن بلوغه، أو أسوأ أيضا، كلمات فارغة تُستخدم حجّة ً لأيّ استغلال وفساد، أو لتعزيز استعمارٍ إيديولوجيّ من خلال فرض نماذج وأنماط حياة غريبة عن هويّة الشّعوب، وفي نهاية المطاف، غير مسؤولة.

إنّ الحرب هي إنكار جميع الحقوق واعتداء مأساوي على البيئة. فإذا أردنا تنمية بشريّة حقيقيّة مُتكاملة للجميع، لا بُدَّ من المضيّ قدمًا دون كلل، في الالتزام لتحاشي الحرب بين الأمم وبين الشعوب.


ولهذا، ينبغي ضمان سيادة القانون غير القابلة للنقاش واللجوء بلا كلل إلى التفاوض، والمساعي الحميدة والتّحكيم، كما يقترح ميثاق الأمم المُتحدة، القاعدة الحقيقيّة القانونيّة الأساسيّة. إن خبرة السّنوات السّبعين لوجود الأمم المُتحدة، بشكلٍ عام، ولاسيّما خبرة السنوات الخمس عشرة الأولى من الألفيّة الثالثة، تُظهران فعاليّة التطبيق الكامل للقواعد الدوليّة كما وعدم فعاليّة غياب الامتثال لها.


فإذا تمّ احترام وتطبيق ميثاق الأمم المتحدة بشفافيّة وصدق، دون غايات أخرى، مرجعًا إلزاميًّا للعدالة وليس أداةً لإخفاء نوايا غامضة، يتمّ تحقيق نتائج سلام. وبالعكس، عندما تُعتبر القاعدة مجرّد أداة للاستخدام عندما تكون ملائمة، والتملّص منها عندما لا تكون كذلك، يُفتح صندوق باندورا لقوى خارجة عن السّيطرة، تُسيء على نحوٍ خطير إلى السّكان العُزّل، وعلى البيئة الثقافيّة والبيئة البيولوجيّة أيضًا.

           

إن الديباجة والفصل الأوّل من ميثاق الأمم المتحدة يُشيران إلى أسس البنية القانونيّة الدوليّة: السّلام، الحلّ السّلميّ للإختلافات ونموّ العلاقات الوديّة بين الأمم. ويتعارض بشدّة مع هذه التأكيدات وينبذها لجهة تطبيقها، الميل الحاضر دومًا تُجاه انتشار الأسلحة، لاسيّما أسلحة الدّمار الشّامل كما هي حال الأسلحة النوويّة. إنّ الخلقية والحقّ المُرتكزين إلى التّهديد بالدّمار المُتبادل ـ وإمكانيّة القضاء على البشريّة بأسرها ـ يقفان على طرفي نقيض ويشكّلان ضربًا من الإحتيال تُجاه بنية الأمم المتحدة برمّتها التي تتحوّل إلى "أمم مُتّحدة بدافع الخوف وانعدام الثقة". لا بُدّ من الإلتزام في بناء عالم خالٍ من الأسلحة النوويّة، مع التطبيق الكامل لمعاهدة منع الإنتشار النووي، نصًّا وروحًا، نحو حظر تامّ لهذه الأدوات.


إنّ الإتفاق الأخير بشأن المسألة النوويّة في منطقة حساسة في آسيا والشّرق الأوسط، لهو إثبات لإمكانات الإرادة السياسيّة الصّالحة والقانون، اللذين نُمّيا بصدقٍ وصبرٍ ومُثابرة. أعرب عن تمنياتي كي يدوم هذا الإتفاق ويصير فاعلاً ويُعطي ثماره المرجوّة في إطار التعاون مع كلّ الأطراف المعنيّة.


في هذا السّياق لا يخلو الأمر من التّجارب الخطيرة للتبعات السّلبيّة المُترتبة على التّدخلات السياسيّة والعسكريّة غير المنسقة بين أعضاء الجماعة الدوليّة. لذا، ومع أنّي أرغب بألا تكون هناك حاجة لذلك، لا يسعني ألا أجدّد نداءاتي المتكرّرة فيما يتعلّق بالوضع المؤلم في منطقة الشّرق الأوسط بأسرها وأفريقيا الشّماليّة وبلدان أفريقيّة أخرى حيث المسيحيّون، مع مجموعاتٍ ثقافية وعرقية أخرى وأيضًا مع هذا الجزء من أتباع ديانة الأكثريّة الذي لا يريد الإستسلام للعنف والجنون، أجبروا على أن يصيروا شهودًا لتدمير دور العبادة الخاصّة بهم وإرثهم الثقافي والدّينيّ، وبيوتهم وأملاكهم ووُضعوا أمام الاختيار بين الهروب أو دفع حياتهم ثمنًا للتمتع بالخير والسّلام أو الإستبعاد.


لا بُدّ أن تشكّل هذه الوقائع دعوة جادّة لفحص الضّمير لمن تُلقى على عاتقهم مسؤوليّة إدارة الشّؤون الدّوليّة. لا في حالات الإضطهاد الدينيّ والثقافي وحسب، بل في كلّ حالات الصّراعات، كما هي الحال في أوكرانيا، سوريّة، العراق، ليبيا، جنوب السودان ومنطقة البحيرات الكُبرى، وقبل المصالح الأحاديّة الجانب ـ مع أنّها مشروعة ـ ثمّة وجوه واقعيّة. ثمّة أشخاص في الحروب والصراعات، إخوتنا وأخواتنا، رجال ونساء، شبّان ومسنّون، أطفال يبكون، يتألّمون ويموتون. كائنات بشريّة تتحوّل إلى مواد يتمّ إقصاؤها في وقت تقتصر فيه الأمور على تعداد المشاكل والإستراتيجيّات والنقاشات.


كما طلبتُ من الأمين العام للأمم المتحدة في رسالتي في التاسع من آب أغسطس 2014 "إنّ الفهم البديهيّ للكرامة البشريّة (يُلزم) الجماعة الدوليّة، لاسيّما من خلال قواعد وآليات القانون الدوليّ، بفعل كلّ ما هو مُمكن من أجل وقف العنف المنهجيّ ضدّ الأقليّات العرقيّة والدينيّة والوقاية منه" ومن أجل حماية السّكان الأبرياء.


في هذا السّياق أودّ الإشارة إلى صراع من نوع آخر، قد لا يكون بديهيًّا دائمًا لكنّه يؤدّي إلى موت ملايين الأشخاص بشكلٍ صامت. كثيرة هي مدننا التي تعيش حربًا من نوع آخر ضدّ ظاهرة الإتجار بالمخدرات. إنها حرب "نتحمّلها" ونقاتل فيها بضعف. إنّ الإتجار بالمُخدّرات يكون بطبيعته مرفقـًا بالإتجار بالأشخاص، بتبييض الأموال، بالإتجار بالأسلحة وباستغلال الأطفال وأشكال أخرى من الفساد. الفساد الذي تغلغل في مختلف مستويات الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والفنيّة والدينيّة مولّدًا في حالات كثيرة بنية موازية تعرض للخطر مصداقية مؤسّساتنا.


لقد بدأتُ هذه المداخلة مُذكّرًا بزيارات أسلافي. الآن أودّ أن تكون كلماتي، بنوع خاصّ، بمثابة تتمّة للكلمات الأخيرة في خطاب بولس السادس التي تفوّه بها لخمسين سنة خلت، بيد أن قيمتها ما تزال آنية. اقتبس: "لقد آن الأوان لتُفرض وقفة، لحظة من التّأمل وإعادة التفكير والصّلاة تقريبًا: أي فكروا بمصدرنا المُشترك، بتاريخنا، بمصيرنا المُشترك. لم تكن قط ّ ضروريّة مثل يومنا هذا... الدّعوة إلى الضمير الخلقيّ للإنسان (بما أن) الخطر لا يأتي من التقدّم والعلم: القادرين، إذا أُحسن استخدامهما، على حلّ العديد من المشاكل الخطيرة التي تضايق البشريّة" (الخطاب إلى ممثلي الدول، 4 تشرين الأول أكتوبر 1965). كما أنّ الإبداع البشريّ، وفي حال تطبيقه بشكلٍ ملائم، يساعد بلا شكّ على حلّ التّحديّات الخطيرة للتقهقر الإيكولوجيّ والإقصاء. أتابعُ بكلمات بولس السادس: "الخطر الحقيقيّ يكمن في الإنسان، سيّد أدوات أكثر قوّة قادرة على إحداث الخراب وأسمى الانجازات!" (المرجع نفسه). هذا هو بولس السادس.


على البيت المشترك لجميع البشر أن يقوم دائمًا على أساس الفهم المُستقيم للأخوّة الكونيّة واحترام قدسيّة كلّ حياة بشريّة، وكلّ رجل وامرأة؛ الفقراء، المسنّين، الأطفال، المرضى، الأجنّة، العاطلين عن العمل، المتروكين ومن يُعتبرون أهلاً للإقصاء لأنّه يُنظر إليهم على أنّهم مجرّد أرقام في هذه الإحصائيّة أو تلك. كما لا بُدّ أن يُبنى البيت المُشترك لجميع البشر أيضًا على أساس فهم قدسيّة الطبيعة المخلوقة.


إنّ هذا الفهم والاحترام يتطلّبان مُستوى أعلى من الحكمة، يقبل البعد المتسامي، يتخلّى عن بناء نخبة كلّية القدرة ويفهم أنّ المعنى التّام للحياة الفرديّة والجماعيّة يوجد في الخدمة غير الأنانيّة حيال الآخرين وفي الاستخدام الحذر والمحترِم للخليقة من أجل الخير العام. أكرر كلمات بولس السادس "على بنية الحضارة المعاصرة أن ترتكز إلى مبادئ روحيّة وهي وحدها قادرة على حمله وإنارته" (المرجع نفسه).


الغاوتشو مارتن فييرّو، وهو عمل أدبيّ كلاسيكيّ في أرضي الأمّ ينشد "على الإخوة أن يتّحدوا لأنّ هذا هو القانون الأوّل. لتكن لديهم الوحدة الحقيقيّة دائمًا لأنّه إذا تقاتلوا فيما بينهم سيفترسهم الغرباء".


إنّ العالم المعاصر المترابط بشكلٍ واضح، يختبر تفتتًا اجتماعيًّا كبيرًا ومتناميًّا ومستمرًّا يعرّض للخطر "كلّ أسس الحياة الإجتماعيّة" لذا "يؤدّي إلى وضعنا في مواجهة مع بعضنا من أجل الدّفاع عن مصالحنا" (الرّسالة العامّة كُن مسبّحًا، 229).


إنّ الزّمن الرّاهن يدعونا إلى تفضيل أعمال تولّد ديناميّات جديدة في المجتمع وتؤتي ثمارًا بشكل أحداثٍ تاريخيّة هامّة وإيجابيّة (راجع الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل، 223).


لا يسعنا أن نقبل بإرجاء "بعض الأجندات" إلى المستقبل. المستقبل يتطلّب منّا قرارات هامّة وشاملة إزاء الصراعات العالميّة التي ترفع عدد المهمّشين والمعوزين.


إن البنية القضائيّة الدوليّة الحميدة لمنظمّة الأمم المتحدة وكلّ أشكال تطبيقها، والتي يمكن تحسينها كأيّ عملٍ بشريّ آخر وفي الوقت نفسه ضروريّة، يمكن أن تشكّل تعهّدًا لمستقبل آمنٍ وسعيد لأجيال الغد. وهذا سيتحقق إذا ما تمكّن ممثّلو الدّول من تحييد المصالح القطاعيّة والأيديولوجيّات والبحث بصدق عن خدمة الخير العام. أسأل الله الكلّي القدرة أن يتحقّق ذلك، وأؤكّد لكم دعمي وصلاتي ودعم وصلوات جميع مؤمنيّ الكنيسة الكاثوليكيّة كي تتمكن هذه المؤسّسة وكافّة الدّول الأعضاء وكلّ واحد من موظّفيها من تقديم خدمة فاعلة للبشريّة وخدمة تحترم التّنوّع وتعرف كيف تفعّل ما هو الأفضل لدى كلّ شخص وكلّ مواطن من أجل الخير العامّ.


ليبارككم الله جميعًا!

إذاعة الفاتيكان.