رسالتك في الحياة(4) «أضواء

 

 

 

فما هو الحل؟

لقد كان هذا الرجل العظيم والحكيم (بولس) عالمًا تمامًا بهذه الحقيقة، وهي إن مصالحة العدو بسرعة أمر خطير وصعب، لا بحسب الطبيعة إنما بسبب تراخي الإنسان. وهو لا يأمرنا فقط أن نصطلح على عدونا بل وأن نطعمه أيضًا، الأمر الأكثر صعوبة لأنه إن كان البعض لا يقدر حتى على معاينة من يضايقونهم، فكيف يرغبون في تقديم الطعام لهم وهم جائعون؟!

ولماذا أقول أن النظر إليهم يثيرهم، بل مجرد ذكر اسمهم يعيد إلى ذاكرتهم جراحتها ويلهب نيران حقدهم.

لقد كان بولس عالمًا بهذا، وهو يريد إن ما كان قاسيا وصعبًا سهلاً وبسيطًا. يريد أن يقنع من لا يحتمل معاينة عدوه أن يقدم له خيرًا، لذلك أضاف قوله "يجمع جمر نار"، حتى يسرع محب الانتقام إلى صنع الخير لعدوه.

كما أن الصياد يحيط الصنارة بطُعم من كل جانب، فتسرع سمكة لتأكل منه كعادتها (في أكل السمك الصغير) للحال يأسرها الصياد ويمسكها بسهولة، هكذا يصنع بولس الذي يريد أن يقود الإنسان إلى تقديم الخير لمضايقيه، إذ لا يقدم صنارة الحكمة الروحية عارية، إنما يغطيها بمثل هذا الطعم أي "جمر النار" فيدعوا الإنسان المهان الراغب في الانتقام إلى تقديم الخير لمضايقه.

وإذ يأتي الإنسان بهذا الفعل يصطاده الرسول ولا يتركه يهرب.

فكأن الرسول يقول لمحب الانتقام "إن كنت لا تقدم الطعام للمخطئ إليك من باب الشفقة، فقدمه من أجل رغبتك في الانتقام". والرسول يعلم إنه متى بدأ الشخص في هذا العمل فسيكون هذا بداية إنطلاق للمصالحة بينهما (ويختبر الشخص حلاوة فضيلة محبة الأعداء).

 لكن لاحظ كيف يربط بين الإثنين.

أولاً: عن طريق صنع الخير (لأنه مهما كان الإنسان دنيئًا وبلا إحساس، فإنه بعدما يتقبل الطعام والشراب يصبح خادمًا وصديقًا لمن قدمهما إليه). 

ثانيًا: عن طريق الخوف من الانتقام. لأن العبارة: "لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه" تبدو كأنها موجهه لمقدم الطعام، لكنها هي بالأكثر تخص مسبب المضايقة.  فبخوفه من العقاب فيكف عن العداوة، لأنه يعلم إن أخذه الطعام والشراب يزيد جرمه إن بقي في العداوة. لهذا يصرف غضبه للحال مطفئًا جمر النار.

فالعقوبة المقترحة والانتقام المعلن يقنعان الطرفين: الذي أهين لكي يقدم الخير لمضايقه، ومسبب الغضب نصده ونجبره أن يصطلح مع من قدم له الطعام والشراب.

وهكذا يربط بولس الاثنين برباط مزدوج. الأول يعتمد على تقديم المنفعة لمضايقه، والثاني الخوف من العقاب. لأن الصعوبة تكمن في أن يبدأ أحدهما ويفتح باب المصالحة، وعندئذ يكون الباقي سهلاً وبسيطًا. 

اهزم شرك لا أخاك

لهذا لم يقف بولس عند هذا الحد في نصحه، بل عندما يفرغ كلاهما من الغضب يقدم الوضع السليم قائلاً: "لا يغلبنك الشر". وكأنه يقول "إن كنت تحمل غيظًا وتبحث عن الانتقام، فإنه حقًا يبدو كأنك تهزم عدوك. لكن في الحقيقة تكون أنت المغلوب بالشر أي بالغضب".

فإن أردت الغلبة اصطلح ولا تهاجم خصمك. فإنها نصرة عظيمة أن تغلب الشر وتطرد الغضب والحقد، بصنع الخير أي الاحتمال.

إذًا هل أدركت حكمة المشرع؟! ولكي تتعلم أنه جاء بهذه الوصية هكذا بسبب ضعف الذين لا يقتنعون أن يصطلحوا... أسمع ما يقول السيد المسيح عندما شرع وصية في نفس الأمر دون أن يضع نفس الجزاء بل قال: "أحبوا أعدائكم... احسنوا إلى مبغضيكم" (مت 5: 22) أي قدموا لهم طعامًا وشرابًا... "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات" (مت 5: 45) موضحًا لهم هذا الجزاء لأنه كان يحدث بطرس ويعقوب ويوحنا وبقية الرسل... 

مثال عملي

لقد اقتبس الرسول نفس كلمات سليمان (أم 25: 21-22) ليقنع المستمع الذي بلغ درجة روحية عالية هكذا يراعى ما جاء في الناموس القديم كأمر نفذه أناس من رجال العهد القديم.

كثيرون نفذوا هذه الوصية من بينهم داود الذي نفذها في صورة سامية، إذ بالحقيقة لم يقدم لعدوه طعامًا وشرابًا فحسب، بل وأنقذه دفعات كثيرة من الموت. فعندما كان في جبعة وكان في إمكانه أن يقتل لم يفعل هذا مرة ومرتين... نعم بل ومرات كثيرة.

وبقدر ما كان شاول يكرهه ويضايقه، كان هو يقدم له خيرًا وصلاحًا كثيرًا. فبعدما أنتصر داود إنتصارًا باهرًا أمام داود...لم يطق شاول أن يذكر اسمه بل كان يدعوه باسم أبيه. فبعدما أعدت الوليمة ودبر قتله ونفذت الخطة قال شاول "لماذا لم يأتِ أبن يسى" (1صم 20: 27)، إذ لم يطق أن ينطق أسمه الحقيقي... كما أراد أن يحطم مركز هذا الرجل المرموق بذكر أصله.

يا له من فكر بائس ومحتقر، لأنه إن كان في الأب عيوب، فهذا لا يسئ إلى داود، لأن كل إنسان يسأل عن أعماله هو، وبها يمدح أو يذم.

لقد دعاه "ابن يسى" (للتحقير)، أما داود فعندما وجد شاول نائمًا في الكهف لم يدعه "ابن قيس" بل كرمه قائلا:ً "حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب" (1 صم 26: 11). هكذا كان داود في نقاوة متحررًا من الغضب أو الاستياء من الأضرار، تدعى هذا الذي أرتكب ضده شرورًا كثيرة، وكان متعطشًا لسفك دمه، ومحاولاً أن يهلكه "مسيح الرب".

أنه لم يهتم ما يستحقه شاول بل فكر فيما يليق به هو أن يفعله حسبما تمليه عليه الحكمة.

أنه لم يتطلع إلى الظروف أنها تسهل عليه عملية قتل شاول بل كانت ملاحظته دقيقة من جهة الحكمة التي تكون له.

هل استطاعت نصيحة القائد له وحثه على ارتكاب الجريمة، وهل استطاع تذكره للماضي أن يعزيه على القتل؟!

لم يستطع شيء من هذا أن يثيره. لكن الفرصة المهيأة له للقتل بسهولة حولته عن إرتكاب الفعل، إذ فكر هكذا أن الله وضع شاول تحت يده ليختبر حكمته.

ربما تعجب من داود لأنه لم يفكر في أي شيء سابق، لكن الذي يدهشني أنا أنه لم يقسي يده على شاول خوفًا من الظروف المقبلة. لأنه يعلم تمامًا أنه إن فلت شاول من يديه فسيكون فيما بعد خصمًا له...لكنه أستحسن أن يعرض نفسه للخطر مسامحًا من أساء إليه على أن يضمن لنفسه أمانًا مستخدمًا العنف مع عدوه.

يا لعظمة هذا الرجل! ويا لسمو روحه! هذا الذي كان الناموس يطالبه "عين بعين وسن بسن" (تث 19: 22) فإنه لم يبلغ إلى هذه الدرجة فحسب بل نال درجة عالية من الحكمة.

ولم تقف حكمته في عدم قتل شاول الخصم العنيف، بل ولم ينطق بكلمة غير لائقة ضده، مع أنه لو تكلم ما كان شاول يسمعه. أما نحن فكثيرًا ما نتكلم بالشر حتى ضد أصدقائنا عندما يكونون غائبين.

يا لحنان روحه! إنه بحق قد تبرر كما جاء في القول: "أذكر يا رب داود وكل دعته (وداعته)" (مز 132: 1).

لنقتد به فلا ننطق بكلمة ضد عدونا ولا نصنع به شرًا بل نقدم له الخير قدر المستطاع، فإننا بهذا نصنع خيرًا مع أنفسنا أكثر مما نصنعه معهم. فقد أمرنا أن نغفر لأعدائنا فتغفر خطايانا (مت 6: 14).

ليتنا نشتاق بشغف أن نتصالح مع من يضايقوننا، سواء أكانوا يفعلون هذا بعدل أو بظلم. فإننا إن اصطلحنا هنا نخلص من الدينونة في العالم الآتي... ولكن إذا جاء الموت في الفترة التي فيها البغضة قائمة، وحمل معه العداوة فسينظر في القضية في الدهر الآتي.

كما أن كثيرين عندما يكونون في نزاع مع غيرهم، يتلاقون مع بعضهم البعض بروح الصداقة خارج المحكمة فيخلصون أنفسهم من الخسارة والخطر والمتاعب التي تلحق الطرفين، أما إذا تُرك الأمر أمام القاضي فسيلحق كلاهما خسارة مادية، كما قد يلحقهما عقوبة، وتبقى العداوة بينهما دائمة.

هكذا نحن أيضًا إذا بقينا في العداوة فسنرحل إلى المحكمة المهيبة في العالم الآتي وندفع حتمًا العقوبة حسب أمر الديان. ويخضع للعقوبة المحتملة كل من الذي غضب ظلمًا لأنه فعل هذا، والذي غضب بعد لأنه أبقى الحقد.

لهذا يلزمنا إذا عوملنا معاملة رديئة ظلمًا أن نغفر لمن يخطئ في حقنا.

لاحظوا كيف يحث المتألمين ظلمًا ويشجعهم للمصالحة مع من أساءوا إليهم "فإن قدمت قربانك على المذبح وهناك تذكرت إن لأخيك شيئًا عليك فأترك قربانك قدام المذبح وأذهب أولاً إصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك" (مت 5: 23-24)

إنه لم يقل: "اجتمع معه وقدم قربانك" بل اصطلح وقدم قربانك.

انظر أيضًا كيف يدفعكم مرة أخرى للذهاب إلى مضايقتكم، بقوله "فإنه إن غفرتم للناس زلاته يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي" (مت 5: 14)، مقدمًا مكافأة عظيمة ليست بهينة.

تأملوا هذه الأمور جميعها، واحسبوا قدر المكافأة العظيمة، وتذكروا أن غسل الخطايا يتوقف على غفراننا للمسيئين إلينا...

ليت إله السلام والمحبة، الذي ينزع عن أرواحنا كل حقد ومرارة وغضب، يتنازل ويهبنا - بارتباطنا مع بعضنا البعض في وحدة تامة كما ترتبط الأعضاء مع بعضها البعض (أف 4: 16) - أن نقدم له باتفاق واحدٍ وفم واحدٍ وروح واحدٍ تسبيح شكرنا الواجبة له. لأن له المجد والقوة إلى أبد الأبد. آمين.

عظة للقديس يوحنا الذهبي الفم(+407 )