رسالتك في الحياة (2) «أضواء
أنتم نور العالم
كم أنا مغموم، إذ أرى في أيام الأعياد الجموع المحتشدة كالبحر المتسع الأرجاء، والآن لا أجد ولا القليل من الجموع لتجتمع ههنا.
أين ذهب أولئك الذين يزحموننا بوجودهم في أيام الأعياد؟!
إنني أتطلع إليهم متحسرًا عليهم، حزينًا من أجل تلك الجموع التي تهلك بعيدًا عن طريق الخلاص.
يا لها من خسارة عظيمة في الإخوة! إن قليلين هم الذين يهتمون بالأمور الخاصة بالخلاص.
يا له من جزء كبير من جسد الكنيسة يشبه الميت الذي بلا حراك!!
تقولون: وماذا يخصنا نحن في هذا؟
لديكم إمكانية عظمى بخصوص إخوتكم. فإنكم مسؤولون إن كنتم لا تنصحوهم، وتصدون عنهم الشر، وتجذبونهم إلى هنا بقوة، وتسحبونهم من تراخيهم الشديد. لأنه ماذا يليق بالإنسان أن يكون نافعًا لنفسه وحده، بل ولكثيرين أيضًا. ولقد أوضح السيد المسيح ذلك عندما دعانا "ملحًا" (مت 5: 13)، و"خميرة" (مت 13: 33)، و "نورًا" (مت 5: 14)، لأن هذه الأشياء مفيدة للغير ونافعة لهم.
فالمصباح لا يضيء لذاته، بل للجالسين في الظلمة. وأنت مصباح، لا لتتمتع بالنور وحدك، إنما لترد إنسانًا ضل، لأنه أي نفع لمسيحي لا يفيد غيره؟! ولا يرد أحدًا إلي الفضيلة؟!
مرة أخرى، الملح لا يُصلح نفسه، بل يصلح اللحم لئلا يفسد ويهلك... هكذا جعل الله ملحًا روحيًا، لتربط الأعضاء الفاسدة أي الإخوة المتكاسلين المتراخين، وتشددهم وتنقذهم من الكسل كما من الفساد، وتربطهم مع بقية جسد الكنيسة.
وهذا هو السبب الذي لأجله دعانا الرب "خميرًا"، لأن الخميرة أيضًا لا تخمر ذاتها، لكن بالرغم من صغرها فإنها تخمر العجين كله مهما بلغ حجمه. هكذا افعلوا أنتم أيضًا. فإنكم وإن كنتم قليلين من جهة العدد، لكن كونوا كثيرين وأقوياء في الإيمان والغيرة نحو الله. وكما أن الخميرة ليست ضعيفة بالنسبة لصغرها، إذ لها قوة وإمكانية من جهة طبيعتها... هكذا يمكنكم إن أردتم أن تجتذبوا أعدادًا أكثر منكم ويكون لهم نفس المستوى من جهة الغيرة.
لكن قد يعتذرون بأن الوقت ضيق، إذ أسمع أمثال هذه الكلمات بأن الحر زائد، وحرارة الشمس غير محتملة، ولا نقدر على الزحام (هذه أمثله من الحجج التي نسمعها من بعض المسيحيين).
صدقوني أني أخجل منهم. فإن مثل هذه الاعتبارات مملوءة تدليل، التي لا يليق أن يحتج بها حتى أصحاب الأجساد الرقيقة وذوي الطبيعة الضعيفة، فأنها لا تبررهم.
فإنهم إن قدموا مثل هذه الأعذار بغير خزي، فيلزمنا ألا نخجل من إجابتهم.
وماذا أقول للمتقدمين بمثل هذه الأعذار؟ إنني أريد أن أذكرهم بالثلاث فتية في أتون النار، الذين إذ أحاطتهم النيران من كل جانب، تغمر أفواههم وعيونهم وتنفسهم لم يكفوا عن التغني بالتسبحة السرية المقدسة لله.
وأظن أنه يليق بنا أن نضيف إليهم الأسود التي كانت في بابل ودانيال في الجب (دا 4: 24).
وليس هذا وحده، بل وفي الجب آخر كان النبي أرميا حيث كان الوحل قرابة رقبته (أر 38: 5).
أليس من المدهش حقًا أن هؤلاء القديسين الذين كانوا في أتون النار أو في جب أو بين الوحوش، وفي الوحل، وفي السجن، وتحت الضربات والجلدات والآلام غير المحتملة، لا يتذمرون بل يتغنون بالتسبيح المقدسة في حيوية وبغيرة متقدة بينما نحن الذين لم نقع تحتها - لا في كثير ولا في قليل - نهمل خلاصنا محتجين بسخونة الشمس وحرارة الجو قليلاً وبعض التعب، هاجرين اجتماعنا، مفسدين أنفسنا بذهابنا إلى اجتماعات مهلكة تمامًا؟!
فمن الواضح أذن أن هذه الأعذار غير المعقولة هي وليدة الكسل والتراخي، مفتقرة لنيران الروح القدس.
لتدعوا الجميع
إن ملاحظاتي هذه ليست موجهة إليهم بل بالأكثر إليكم يا من تتقدمون بهم، وتقيمونهم من كسلهم، وتأتون بهم إلى مائدة الخلاص هذه.
حقًا إن العبيد عندما يقومون ببعض الخدم العامة يستدعون زملاءهم العبيد، أما أنتم فعندما تذهبون لتجتمعوا في الخدمة الروحية تحرمون زملاءكم من بركاتها بسبب إهمالكم.
تقولون "وماذا نعمل إن كانوا لا يرغبون في المجيء؟"
اجعلوهم يرغبون بلجاجتكم الدائمة، فمتى رأوكم مصرون على هذا يرغبون هم أيضًا.
إنها مجرد أعذار تقدمونها. فكم من آباء يجلسون ههنا ولا يرافقهم أولادهم؟ هل من الصعب أيضًا أن تأتوا ببعض من أولادكم؟!
ليشجع كل واحد غيره، ويحثه على الحضور. فالأب يشجع ابنه، والابن أباه، والأزواج زوجاتهم، والزوجات أزواجهن، والسيد عبده، والصديق صديقه، وبالحري ليس فقط أصدقاءه بل وأعداءه أيضًا... داعيًا إياهم لينهوا من الكنز المقدم لخير الجميع. فإن رأى العدو اهتمامك بما هو لخيره فسينزع عنه بغضته لك.
لا تأتي فارغاً
إنني أقول أن الذين تخلوا عن هذا الاهتمام (بالإخوة) ينالون صفعة في أكثر أجزائهم حيوية، محتملين خسارة أبشع مما تحدث بأي سبب آخر، لأن من يحضرون معهم أحدًا يقتنون ربحًا أعظم مما يقتنى بأي شيء آخر، كما يعلن الكتاب المقدس... "لا يظهر أمامي فارغين" (خر 23: 5)، بمعنى ألا يدخلوا الهيكل بغير ذبائح. فإن كان لا يجوز دخولنا الهيكل بغير ذبائح، فكم بالحري يليق بنا ألا نأتي ونحن غير مصطحبين إخوتنا، لأن هذه التقدمة أفضل من تلك.
ليتنا نقتدي ببعض المخلوقات غير العاقلة، إذ تصطاد فريسة لممن هو من جنسها، فأي عذر لنا نحن الذي قد كرمنا بالعقل وبحكمة كهذه إن كنا لا نعمل مثلها؟
لقد نصحتكم في العظة السابقة وقلت لكم: "أذهبوا كل واحد إلى بيوت أقربائه، وانتظروهم حتى يخرجوا وامسكوهم واقتادوهم إلى بيت أمهم العام. امتثلوا بالمجانين الذين يقابل كلٍ منهم الآخر مبكرًا لكي يقتاده للمشاهد الشريرة.
وها أنا أكرر النداء، ولا أكف عنه حتى أجد بكم إلى العمل.
عظة للقديس يوحنا الذهبي الفم(+407 )