الصلاة والحياة والعمل (2) «أضواء

 

 

 

4- الصلاة تجعلنا رسل الله في العالم:

في اساس ايماننا بيسوع المسيح هو ايماننا بأنه مرسل من الآب السماوي الى العالم، ليحقق ملكوته بين البشر. وعلى هذا، فالمسيحي الذي يقتفي اثر المسيح ويمشي على طريقه، يشارك المسيح في رسالته السماوية فيصبح رسوله ومسيحا آخر لاخوته في العالم. والروح القدس ، الذي هو سيد الرسالة وملهمها، هو الذي يرسل المسيحي الى العالم ، ليشارك المسيح في رسالته.

ففي يوم العنصرة، عندما حلّ الروح القدس على الرسل، انطلق الرسل ليبشّروا بالمسيح وليتابعوا رسالته. على هذا، فالمسيحي الذي يعيش بموجب إيمانه مرسل يوميا من قبل الروح القدس ليبشّر بالمسيح وليتابع رسالته، وخاصة من خلال أمثاله وأعماله.

وهكذا، فان المسيحي مدعو ليقوم برسالة المسيح ، ليس فقط في بعض الأعمال الكنسية، بل في كل عمل انساني يقوم به يوميا، اكان ذلك فكرياً أم يدوياً، دراسياً أم مهنياً، كبيراً أم صغيراً، ظاهراً أم خفياً. هذا ما فعله يسوع المسيحي في الناصرة مدة ثلاثين سنة، وقبل ان استهّل التبشير العلني بالملكوت. فكانت حياة يسوع متحدة بالآب السماوي من خلال صلاته وأعماله اليومية.

5- الصلاة ومحبة العالم:

ان اتحاد المسيحي بالله في الصلاة يساعده على ان يحب كما يحب الله، فيشارك المسيح في نشر ملكوت حبه في العالم ، ويعمل في بناء المجتمع البشري على اسس المحبة والتضامن والاخوة. ومحبة المسيحي للعالم وما فيها، مهما بلغت من صفاء النية، يشوبها دائما شيئا من الانانية وحب المصلحة والتعلق المفرط بالارضيات.

لذلك، يحذّر المسيح من العالم، الذي يبعد الله، ففي صلاته الكهنوتية قبيل آلامه صلّى الى الآب السماوي من اجل أتباعه: " إنهم ليسوا من العالم، كما إني لست من العالم. لا اسألك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير." ( يوحنا 17/ 14- 15 ). فمن ناحية، المسيحي الذي يتوحد مع الله في عمق صلاته يحب العالم بمحبة الله لها، ومن ناحية اخرى، بما انها قد تبعده عن الله، عليه ان يكون حذراً وأن يتجنب التعلق المفرط بالأرضيات والامور الدنيوية.

ان هذا الموقف الثنائي نحو العالم اساسي في إيماننا المسيحي، وانه الموقف المتزن والناضج. وبالنتيجة، فالمسيحي، الذي يتحد بالله في صلاته، يحب الله في كل شيء، وينظر الى كل شيء في الله، وانه يحب كل شيء في العالم بقدر ما يجد فيه الله، وانه ينفر عن اي شيء في العالم بقدر ما لا يجد فيه الله ويبعده عنه. 

6-الصلاة تقود الى العمل:

إن الاتحاد بالله في الصلاة يقودنا الى العمل من اجل إنتشار ملكوت محبة الله بين البشر. فيقول القديس يعقوب في هذا الصدد: "ماذا ينفع، يا اخوتي، ان يقول أحد إنه يؤمن، إن لم يعمل؟ أبوسع الايمان ان يخلّصه؟ فان كان فيكم اخ عريان او اخت عريانة ينقصهما قوت يومهما، وقال لهما أحدهم: " إذهبا بسلام فأستدفئا وأشبعا" ولم تعطوهما ما يحتاج اليه الجسد، فماذا ينفع قولكم؟ وكذلك الايمان، فان لم يقترن بالأعمال كان ميتا في حد ذاته." ( يعقوب 2/ 14-17 ) . ويقول ايضا القديس بولس:

" إنما القيمة للايمان العامل بالمحبة." ( غلاطية 5/ 6 ) وقد يحدث للمسيحي ان تصبح صلاته انطواء على النفس وانغلاقا تجاه الآخرين، فلا تتواصل مع ابعاد حياته المختلفة، من علاقات بشرية وأنشطة اجتماعية وأعمال مهنية. فمن الضروري جدا ان تنفتح الصلاة على الحياة المعاشة وإلى العمل لنشر ملكوت محبة الله بين البشر.

7- الروح القدس ودائرة الصلاة والعمل:

إن الروح القدس يعمل دائما فينا من خلال أحداث حياتنا وأعمالنا المختلفة؛ فانه يوحّدنا مع الله، فيطهّر ما يجب ان يطهّر، ويقدّس ما يجب ان يقدّس، ويكمّل ما يجب ان يكمّل. فعلى  المسيحي أن يكون منفتحاً دائما إلى الروح القدس عبر احداث حياته وأعماله المختلفة، وخاصة من خلال الخلوة الروحية في الصلاة التي تجمعه بشكل خاص مع الله. وبذلك، تتحول حياته وأعماله الى صلاة واتحاد بالله، وتصبح حياته وأعماله قنوات تمّر من خلالها نعمة الرب وبركته.

مما سبق عن الصلاة والعمل، نستخلص إن هناك دائرة للصلاة والعمل وثمة تضافر وتلاحم وتكامل بينهما. انهما وجهان لشيء واحد أساسي في حياتنا، وهو الاتحاد بالله. فعلى المسيحي ان يسعى الى الوحدة بين صلاته وعمله. من ناحية اخرى، فإنه لا يستطيع ان يتوصل الى هذه الوحدة بقواه الذاتية فقط، لأنها اساساً هبة مجانية من الروح القدس .

على هذا، فالوحدة بين الصلاة والعمل هي نعمة، نطلبها بتواضع من الله، كما انها تتطلب منّا تدريبا طويلا وجهادا شخصيا، لتطهير القلب وتنقية النيّات من الأنانية. وبذلك ، فالجهاد الروحي يمنع المسيحي من ان يفكر يوما ما انه قد وصل الى الوحدة الكاملة، بل يدفعه الى ان يزداد عمقا وغيرة ومحبة في انماء صلاته وعمله، دون اهمال احدهما.

الأب يوسف بِربي اليسوعي